الفنانة الأردنيّة هيلدا حياري… حكاية للإبداع بالقهوة
نزار عثمان
من يعرف الفنانة الأردنيّة الرائدة هيلدا حياري يعلم تمام العلم أن لا حدود ولا حصر للتجارب في عرفها أو للإبداع في جعبتها. إذ بعد اتخاذها ولسنين طويلة الكانفاس قماش الرسم مسرحاً مؤطراً لما يعتمل في دخيلة نفسها من أحاسيس متشابكة تزرع فيها الشك والريبة في ذهن المشاهد بالإضافة إلى الحبور والألق، نراها تتخذ من الورق مساحة جديدة تبث فيها من ذاتها رؤى يقظة، وصروحاً جمالية باستخدام الأكريليك والأحبار بالإضافة إلى رفيقتها الدائمة أعني بها القهوة.
ليس العمل الفني التشكيلي باستخدام القهوة إجمالاً بجديد، لكن على الأغلب يتم استخدامه من بعض الفنانين الأوروبيين على ندرتهم، لرسم البورتريهات الواقعية، وبدون استخدام مواد أخرى ملوّنة معه على الخامة. وهو ما تنفرد به الفنانة حياري على مستويين، فهي أولاً على ما أسلفنا لا تني تدمج الأعمال الورقية بمواد الأحبار والأكريليك والقهوة، ما يحرّك سكون المساحة البنيّة في اللوحة ويضيف إليها نضارة وحياة واستمرارية وحركية بألوان شفافة قزحيّة. ومن ثم فهي تخترق الحدود المعروفة وتتجاوزها لما هو غير معهود في تطويع البن في الأعمال التعبيرية بعد أن كان حصراً يستخدم في البورتريهات الواقعية لدى غيرها من بعض الفنانين على قلتهم.
والواقع أن الانزياح الإبداعي لا يتوقف عند هذا الحد، فبالإضافة لتصوير شخوص قلقة حائرة على الورق، بأسلوبها المعتاد الذي قوامه رسم الخطوط الأولية للبنية المشكلة، ومن ثم التنقيط والزخرفة والضربات الدقيقة بانفعال مدروس وبحركيّة متجوهرة نحو التكامل، نراها تبني في أحدث لوحاتها خلفية متكاملة لمدينة متعبة متهالكة ترزح تحت نير من العذابات وتختزل المراوحة مصيراً، لكن بإخراج شفاف وضاء، فتظهر الشخوص المتمثلة في منتصف اللوحة أو على جوانبها وكأنهم أبطال خارجون من ليلة من ليالي الألف ليلة وليلة التي يرويها السيف على مسامع الناس.
يبدو أن للفنانة حياري من خلال تجربتها الممتدة لحوالي عقدين أو أكثر في مجال الرسم قصة طويلة مع المدن، فلها من اللوحات السابقة ما يمثل نساء حوامل، أو فاغرات الفم بصراخ مكتوم، أو بجدائل شعر ضفائرها كالأسلاك الشائكة، أو ببنية جسدية مفككة ومنتزعة منها ذاتها إنما ما زالت واقفة تقاوم… تحاكي مدناً وعواصم عربية عانت وتعاني من صروف الدهر، وعقوق الأبناء، وخطط الطامعين الشيء الكثير، فكانت دمشق وكانت عمّان وكانت القدس… وغيرها من المدن… بهذا فتصوير المدن بلوحاتها الورقيّة التي يتشابك فيها الأكريليك بالأحبار مع القهوة ليس بجديد على رسالتها الفنية، بل لعلّه استمرار وتطوير متقدم لشيء بدأته وتسعى لإتمامه.
ولعلّ المتأمل في لوحات الفنانة حياري الورقية الجديدة يجدها تنقسم وفقاً لبعدين، الأول ويتمثل بالبورتريهات التي تظهر رؤوساً مزخرفة بحركية وإيقاع يتبلور من خلالهما الشكل وكأنه في دوامة من الضياع والقلق والوحدة والانحسار والتفجّع إنما مع ابتسامة حمراء داكنة تعلو الشفاه وكأنها تمثل أملاً مفقوداً عقد عليه العزم وزيّن بالرضا. والثاني يمثل شخصاً أو شخصين أو أكثر علاهما ازرقاق شفاف يطوفون بحيّز من المكان اختارته لهم الفنانة على بساط المدن المتشابكة المتضافرة المتعاضدة الممتدّة من الأفق إلى الأفق على مساحة اللوحة.
قد لا تكون تجربة الفنانة حياري باستخدام القهوة والبن قد اكتملت بعد، بل لعلها تتجوهر مع كل جديد، فكل عمل من أعمالها عند انتهائه يبشّر وينبئ بأمر ما قوامه خيال الفنانة غير المحدود، وثقافتها الألمعية اللذين توظفهما أفضل توظيف في تصوير الأحدث من الأعمال، وفقاً لتراتبية تنشد الجمال والإبداع مع صنوف من التعب الناطق باسم المهمّشين الذين وجدوا ضالتهم على فضاء لوحاتها السابقة والحالية.
وفي النهاية تجدر الإشارة، وقد فضلنا في هذه السطور تسليط الضوء على جزئية بسيطة من إبداع الفنانة حياري، وهي استخدام القهوة ممزوجة مع الألوان، دون التطويل أو الإطناب في مجالات الفنانة وأسبقياتها وأساليبها ولوحاتها الأخرى المعتادة والخارجة عن الاعتياد في آن. لكن قبل أن نختم قد يكون من المناسب لفت النظر إلى أن الرائي يتلمس في لوحات الفنانة حياري أنها تعيش الفن بأبعاده وتترجم حواسها وشعورها بدفق وإتقان وتمكن لافت. فهي ضد مبدأ الفن للفن، فإن لم يكن الفن معبراً عن الوجع، وجع الذات والناس، ومسلكاً لتسامي النفس باتجاه الحلول مع ضوء الأمل لن يكون فنّاً ولن يكون إبداعاً… فالذات حدودها الأفق، والفنّ هو المجذاف والسفين.