فضاءات القول وآليّات النّقد في الأدب الوجيز
باسل بديع الزين
يقول ميخائيل نعيمة في كتابه ومضات: «لكلّ إنسان قوقعة يعيش فيها عمره. فهنيئًا للذي قوقعته الكون بأبعاده اللامتناهية». والقوقعة درع خارجيّة صلبة يكسو بعض الكائنات الحيّة مثل الرّخويّات والسّلاحف، ونقول قوقعة السّلحفاة أي الصّندوق العظميّ المغطّى جسمها والذي يحميها من مخاطر العالم الخارجيّ، ونقول تقوقع الشّخص أي انعزل عن بيئته وانطوى على نفسه. فهل يُمكن أن تكون القوقعة فكريّة وثقافيّة وفنيًّا وأدبيًّا؟
الواقع أنّ القوقعة الفكريّة هي علّة العلل بخاصّة إذا تمّ رفدها في سياق التّعريف النّعيميّ، أي في سياق رصد حركتيْن متعارضتيْن: حركة ارتكاسيّة وحركة انبجاسيّة.
نعني بالحركة الارتكاسيّة مجموعة الأفكار التي يحملها صاحبها ويطمئنّ إليها ويركن إلى حتميّتها من دون أن يبذل جهدًا صارخًا في سبيل مساءلتها وتجديدها وبثّ روح إشكاليّة في مندرجاتها. وهذا النّوع من التّفكير له ما يُسوّغه دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وتراثيًّا واعتباريًّا ومعرفيًّا. بيد أنّ مناط الإشكال يتأسّس حول جملة المعنيّين بالحقل الثّقافيّ التّجديديّ الذين لا ينفكّون يؤمنون بضرورة تجاوز الوضع الرّاهن وفتح مجال القول أمام كلّ ما هو طريف ومبتكَر، ولكنّهم يرسفون مع ذلك عند حدود القول التّقليديّ فلا يرتضون من التّجديد إلّا بالشّعار التّوصيفيّ فضلًا عن كونهم لا يتحسّسون عمق الأزمة التي فرضت استكناه أنماط تعبيريّة مختلفة، ويصرّون إصرارًا عظيمًا على تبجيل السّائد وتقريظ القديم وتطويب الأشكال التّقليديّة. والأنكى من هذا كلّه أنّهم يرون في أيّ حركة تجديديّة بالتّمام حركة إلغائيّة فيستشيطون قولًا ويحشدون عدّتهم المعرفيّة التّقليديّة في محاولة تكريس ما دأبوا على الدّعوة لتجاوزه. إنّ هذا النّوع من الأشكلة التّفكيريّة ضارّ وسامّ ومفسد للتّفكير السّليم، لأنّ أصحابه لا يملكون رؤية واضحة، فهم يسيرون رِجلًا في الماضي ورِجلًا في الحاضر لذا لا نستغرب سرعة تعثّرهم أو تباين مواقفهم إزاء موضوع بعينه، وذلكم ما عاينّاه تحديدًا بصدد شعر الومضة.
بتعبير آخر، يحتاج العبور من ضفّة أدبيّة إلى ضفّة أخرى مغايرة حركة انبجاسيّة تفترض بدورها جرأة في التّفكير وتحسّسًا عميقًا للأزمات الكامنة أو الصّارخة في متون النّتاج الأدبيّ. وبهذا المعنى، لا يُمكن لمن يركن إلى تصوّرات مفادها أنّ الحركة الأدبيّة سليمة ومعافاة وأنّ ما يُكتب يندرج في باب التّجديد وأنّ جميع الأمور تسير على ما يرام إذ ليس ثمّة ما يدعو إلى القلق، لا يُمكن له أن يمضي قدمًا في أيّ عمل تجديديّ. هذه الطمأنينة زائفة إن لم نقل مفبركة، ذلك أنّ التّسوّر داخل حدود الذّات وعدم القدرة على تحسّس عمق الأزمة لا يعنيان على الإطلاق أن يغضّ المعنيّون والجريئون الجادّون الطّرف عن القيام بتشخيص دقيق لجوهر ما يُكتب استعادة وقولبة واستنساخًا وتكرارًا. ونحن في ملتقى الأدب الوجيز، نزداد قناعة يومًا بعد يوم بضرورة العبور إلى ضفّة أخرى منتظرة، ضفّة بتول نرتادها لأوّل مرّة كنوع أدبيّ مستقلّ له تأسيسه النّظريّ ومداميكه المفهوميّة وآليّاته النّقديّة فضلًا عن فيض محاولاته نصوصًا وقصصًا قصيرة جدًا في ضرب من ربط النّظر بالعمل. لكن ثمّة مَن يسأل: هل يعني العبور إلى الضّفة الأخرى تنكّرًا صريحًا للضفاف القديمة؟ حقيقة الأمر، أنّ هذه المسألة قد طرحت مرارًا وتكرارًا وكانت الإجابة واضحة وصريحة: العبور لا يعني النّفي والتّجاوز لا يعني التّنكّر، وذلك بالقدر نفسه الذي لا يمنعنا من توجيه سهام النّقد إلى ما نراه تقليديًّا وباليًا في محاولة لفكّ لحمة المنظورات التي تكرّست كتابوهات نقديّة محاطة بدورها بجملة مكتسبات يُشكّل المساس بها خطرًا على المنظومة الشّعريّة الفاشيّة التي تريد أن تحتفظ بمكتسباتها، شاجبة أيّ عمل نقديّ حواريّ جدّي وعميق.
وفي هذا السّياق، تبرز إشكاليّة المتلقيّ بوصفها إشكاليّة جديدة لم يجرِ التّطرق إليها من قبل. وبعبارة أخرى، لقد أخذ ملتقى الأدب الوجيز على عاتقه مهمّة النّهوض بالمتلقي ثقافيًّا وشعريًّا، من دون أن يعني هذا التّصريح عدم وجود نخبة مثقّفة قادرة على التّماهي مع النّصوص الجديدة إن لم نقل قادرة على تلقّيها بطريقة فاعلة تعيد إنتاج النص انطلاقًا من منظورها التّأويليّ وشروط فهمها النّصّيّ فضلًا عن خلفيّاتها الثّقافيّة والمعرفيّة.
بيد أنّ المسألة تكمن في وجود جمهور متلقّ يُطرَب للغثّ ولا يستسيغ الثّمين، جمهور جرى تشكيل ذائقته الفنيّة بصورة نمطيّة وتمّ حجب سبل التّفكير والتّخييل من فضاءات تصوّراته وآليات تلقّيه، حتّى بات جمهورًا منفعلًا لا فاعلًا، وذلكم ما ننافح، بعمق، من أجل تبديله بصورة جذريّة.
المطلوب اليوم الدّفع بالمتلقّي إلى إحياء دور العقل والمخيّلة، ذلك أنّنا ننظر إليه كفاعل ثقافيّ له دور مركزيّ في عمليّة فهم النّصّ وإعادة إنتاجه بألف صورة وصورة. ولا نغالي إذا قلنا بأنّ وجود متلقٍّ واعد وفاعل هو شرط ضروريّ لإرساء مفاهيم النّوع الأدبيّ الجديد الذي نطرحه. كما لا نغالي إذا قلنا بأنّ شرط النّهوض الفكريّ يفترض وجود رؤية مشتركة تفاعليّة وحاضنة تجمع بين الشّاعر أو الأديب والمتلقي. من هذا المنطلق، أتت نماذج شعر الومضة لتحثّ القارئ على إعمال الخيال والتّفكير في آن معًا، وهي مهمّة تبدو للوهلة الأولى غريبة ومستهجنة لكنّها تحمل في طيّاتها بذور طفرة نوعيّة في المجال الشّعريّ العربيّ.
من هنا تتأتّى ضرورة فهم المندرجات الفكريّة التي ينطلق منها هذا الملتقى. إنّ حركيّة شعر الومضة، على سبيل المثال، تأتي في سياق فكريّ بنيويّ مرصوص ومتكامل، أي يجري اعتبارها انطلاقًا من مداميك فكريّة راسخة، لذا يجب التّعاطي معها على أنّها منظومة لها بنيانها الصّلب. ومتى جرى فهمها على هذا النّحو، أمكن رصد فعاليّتها ورَوْمِها ضفة أخرى جديدة بالتّمام. وحين نتحدّث عن قطيعة معرفيّة، فهذا يعني أنّنا نتحدّث عن فضاء مغاير، فضاء لا يُمكن له أن ينمو وأن يتّسع وهو يحتفظ برواسب التّقليد، بل لا بدّ له، إن أراد أن يكرّس نفسه نوعًا أدبيًّا جديدًا، من أن يعبّر خالصًا بريئًا من جميع المقتضيات التي جاء ليثور عليها وإلّا رسف مكانه وسلك دروبًا لا تفضي إلى أيّ تجديد.
من هذا المنطلق، يغدو من الصّعب تقبّل أولئك الذين يرسفون في المنتصف بين ضفّتين، فهم يغامرون بالغرق من دون أن يكون بمكنتهم تلمّس سبل نجاتهم، فيقبعون بانتظار ما لا يجيء متقوقعين على نصف ذواتهم ومشرّعين النّصف الآخر شطر أفق مبهم وتهاويم ضبابيّة.
إنّ أهمّ ما يُميّز الطّروح النظريّة والأبعاد المعرفية والنتاجات الإبداعيّة لملتقى الأدب الوجيز هو وعيُها التّام بحقيقة ما تقوم به. لقد اختطّ هذا الملتقى لنفسه هدفًا واضحًا وراح يذود عنه فكريًّا وثقافيًّا، ويُسجَّل له أنّه خرج من دائرة التّيه والضلال وراح يعدو بخطى ثابتة نحو تكريس مشروعه الفكريّ، زاده النقد الموضوعيّ اللاشخصانيّ والحوار العقلانيّ الرصين والهادف، وهو يملك من الجرأة ما يكفي ومن المعرفة ما ينبغي ومن الإبداع ما يلزم ليمضي قدمًا نحو غايته النّبيلة.
عضو ملتقى الأدب الوجيز