أربع خيبات للحريريّة السياسية لبنانياً وإقليمياً
د. وفيق إبراهيم
المعركة الانتخابية الأخيرة في طرابلس، تمتلك دلالات خطيرة جداً على مستقبل الحريرية السياسية، بما هي مشروع طرح نفسه منذ التسعينيات على أساس قدرته على الجمع بين زعامة الطائفة السنية والإمساك بلبنان السياسي والاقتصادي، والتعبير عن تقدّم الدور السعودي في لبنان.. هذا بالاضافة الى الاستناد على تأييد أميركي ـ أوروبي مفتوح.
اما التذرع بأن هذه الانتخابات فرعية ومحسومة النتائج بما يجعل الناخبين غير مهتمين كثيراً فيسقط بسرعة لدى تحليل مستويات التحشيد التي سبقتها وشاركت فيها قوى داخلية وإقليمية.
فبدا أن المطلوب من هذه الانتخابات إعادة تعويم الحريرية السياسية في المدى الطرابلسي الأكبر سنياً وبتداعياته التي تنعكس آنفاً على التأكيد للجميع بمحورية الحريرية حصرياً في الزعامة الوطنية للسنة.
فهل هذه مجرد انتخابات فرعية تقليدية تلك التي تفرض تنظيم جولات تشارك فيها الحاجة بهية وابنها الأمين العام للمستقبل أحمد الحريري، ورئيس الحكومة سعد بتحشيد غير مسبوق، يصل فيه «مهندسوه» وعلى رأسهم فؤاد السنيورة الى حدود استحضار ضرورة التصدّي لحرب إيرانية على طرابلس يشنها حزب الله والفرس والعجم والحشد الشعبي وأنصار الله والنظام السوري.
هناك تحشيد من نوع آخر، فللمرة الأولى في تاريخ مدينة طرابلس تجتمع كامل قواها الأساسية باستثناء آل كرامي وفي إطار حلف واحد برأس حريري لتأييد المرشحة جمالي.
وبما أن لا منافسين حقيقيين لها، فكان المطلوب إذاً إجراء معركة على رفع مستوى التصويت إلى معدلات، يمكن من خلالها للحريرية السياسية أن تدعِّي زعامتها على السنة في الشمال، الأكبر عدداً في لبنان، وبالتالي على كامل السنة اللبنانيين. هذا هو الهدف الذي أملى على الشيخ سعد، ضرورة تجميع مراكز القوة في الفيحاء وفي حلف واحد معه، خصوصاً أن زعامته الوطنية لم تعد مطلقة كما كانت في مرحلة والده المرحوم رفيق الحريري، أو في المراحل الاولى لترؤسه الحكومة.. فزعامته هذه أصيبت بعطب شديد بعدما حدث له في السعودية من محاولات لإبعاده عن دوره اللبناني بالقوة والاحتجاز، إلى جانب أن الدور السعودي الذي يستند إليه في تغطيته للبنان يمر في أسوأ مراحله مصاباً بتراجع كبير إقليمياً منعكساً تراجعاً على الحريرية السياسية.
لذلك لم يكن مفاجئاً، إصرار السعودية بواسطة دورها الدبلوماسي المتمكّن في لبنان على تأسيس حلف كامل القوى الطرابلسية لصالح تأييد السيدة جمالي، فنجحت بالجمع بين سعد الحريري وكل من أشرف ريفي ونجيب ميقاتي والصفدي وكبارة وعلوش ومعن كرامي وأحمد كرامي وزعماء الأحياء والقوات اللبنانية والمفتي مالك الشعار وثلاثة مطارنة من بين الأكثر أهمية في طرابلس والشمال.
إن هذه القوى ما كانت لتتفق على تأييد مرشح الحريرية السيدة جمالي لولا الطلب السعودي منها، لأن قادتها يعتقدون أن طريق البعض منهم إلى رئاسة الحكومة يمر عند آل سعود، فيما يرى البعض منهم أن مسلكه الى الدور الوزاري والسياسي الداخلي يجب أن يحظى مسبقاً بموافقة السعودية، كالعادة المتبعة، للتذكير فقط فللمرة الأولى منذ التسعينيات يصل وزير سني الى الحكومة هو حسن مراد من خارج الدور السعودي، بما يرمز الى مدى اهتزاز المكانة الحريرية على المستوى الوطني.
بالعودة إلى خيبات الأمل فهي أربع متلاحقة، الأولى أن السيدة جمالي ربحت مقعداً كان معها وبقوة تسعين ألف ناخب من أصل 247 ألفاً هم كامل ناخبي طرابلس، وذلك في الانتخابات السابقة التي جرت قبل تسعة أشهر تقريباً.
أما الملاحظ الآن فإن استردادها لهذا المقعد النيابي قبل يومين أظهر تراجع مؤيديها من 28 في المئة في الانتخابات الماضية الى 7 في المئة حالياً.. علماً أنها في المرة الماضية، كانت تنتمي إلى لائحة لا تضمّ كامل القوى الطرابلسية، كما حدث في الانتخابات الحالية، علماً أن زعيم حزب الكرامة فيصل كرامي امتنع مع مؤيديه عن التصويت، لما اعتبره انتهاكاً دستورياً لحق منافس الجمالي طه ناجي بالفوز الآلي من دون انتخابات وبذلك، فشلت الحريرية في انتزاع الزعامة الطرابلسية.
وبما أنّها التجمع السني الأكبر، فهذا التراجع ينسحب تلقائياً على زعامتها للسنية اللبنانية على المستوى الوطني.
إلا أن هذا لا ينفي استمرار حزب المستقبل قوة سنية كبرى في إطار ميدان فيه قوى سنية لا تقُّل أهميّة.
لبنانياً، فإن الجمع بين حادثة توزير حسن مراد والتراجع في حجم المؤيدين شمالاً بموازاة انكفاء قوة الضغط الإقليمي لهي من المؤشرات على إمكانية صعود قوى سنية أخرى في الميدان الوطني، تستطيع أن تشكل بديلاً من الحريرية السياسية أو مشاركاً معها في التحاصص السياسي في الحد الأدنى، انما من ضمن الولاء للدور الإقليمي السعودي.
فهناك ثلاث قوى طرابلسية ترتبط بالدور السعودي الإقليمي، ويبدو أنها لم تبذل جهوداً كبيرة في معركة طرابلس.. ومن المحتمل أن يكون هذا «التراخي» مقصود من قبلها، للإيحاء للإقليم بوجود تراجع كبير في الحريرية السياسية..
وهذا قد لا يكون بالتنسيق المسبق بين هذه القوى، إنما يعكس نوعاً من السلوك المتشابه، للتجانس في طموحاتها «الحكومية» وهي قوى ميقاتي، الصفدي، ريفي، كباره، علوش، أحمد كرامي وعشرات الآخرين. هذا طرابلسياً فقط لأن هناك عدداً أكبر من الطامحين على المستوى اللبناني العام.
يتبين بالاستنتاج ان الخيبات الأربع للحريرية هي طرابلسية وسنية ووطنية، بمواكبة التراجع الكبير في الدور السعودي العربي والإقليمي، بما يفرض على رئيس الحكومة الذي يحتفظ بمركز قوة أساسي بين السنة وعلى المستوى الوطني، أن ينتمي الى مشروع وطني لا يرتكز فقط على التحشيد عبر الهجوم على حزب الله والفرس، بل بتأسيس بناءات سياسية وطنية واقتصادية بالتحالف مع القوى اللبنانية الكبرى السياسية التي تبذل دماء مجاهديها للدفاع عن لبنان والمنطقة بكاملها.