طلال مرتضى
مثلما هناك الكثير مما يقال عنها بالأخطاء الشائعة اليوميّة والتي نزاولها بكامل قناعة على أنها حقيقة قائمة، ثمة من يتوقف عند مفصل مهم وبكامل أهليّة ليدّعي بأن الكتابة وبعيداً عن نهجها هي حالة ترف، فالبعض يعتقدون وبالفعل هي حالة ترف وأن معظم من يزاولها هم مترفون ربما حدّ التخمة، وبالتشبيه المقارب هذا ما أطلق عليه، ككناية بمعطى المقولة الشعبية «الحمل الكاذب».
نعم، لعلّنا نتلمّس الهالة المترفة للعديد من الكتّاب المشاهير لنسقط عليه المقولة، التي تدلي بأن الكتابة ترف، لكن وبالتأكيد الثابت هذا معيار خاطئ، فالكثيرون ممن زاولوا طقس الكتابة ورفعتهم هالات معيّنة نحو دروب الضوء والشهرة، ربّما لو دقّقنا في تفاصيل حكاياهم لتبيّن لنا خيط الحكاية الأبيض من الأسود، الذي يودي إلى حقيقة واحدة تشي بأن هؤلاء «النجوم الكتّاب» هم صنيعة السياسة كرمز، أو الدين كمرجع، أو القطيع كدال كلّي ولائي..
الكتابة كتعريف، ليست المزاولة الكتابية، والتعريف الحقيقي لها والعلمي، هي نتيجة كلية لمفرز ومخزون قرائي. ولعلّ كلّ ما هو على الورق أو غيره يندرج تحت يافطة كتابة، ولكن بالمطلق الكامل ليس كل ما نقرأ هو كتابة..
الكتابة كمحصلة، هي نبض وحال تصويري قائم، أما النبض فهو ممن عبّرت الكتابة عن مشاعرهم بالفرح والحزن وغيره، وأما التصويري ـ فينهج درباً تالياً ـ تدوين حال الشارع العام.
عندما يتكاثف حسّ الحبر «نبض» مع رسم مخيال واقعي لصورة الشارع «الحال» يتلمّس القارئ معنى ما بين يديه من جهة أولى ويدرك بالسليقة القرائية أنه المعني في ما قرأ في الدرجة الثانية..
في فعالية أقامها «البيت العربي النمساوي» في فيينا، حيث استضاف القاص السوري نبيل جديد الذي قدّم لجمهوره الحاضر عدداً من القصص القصيرة والتي تناولت بفطريّة حبرها مقولات الشارع اليومي بأبيضهِ وأسودهِ. وهذا ما خلق حالة تفاعلية بين الحضور حين وضعت القصص المقروءة على طاولة التشريح.
تناولت المداخلات الخطّ المعماري الفنّي للقصص بعيداً عن خطوط وترميزات مقولات القصص المقروءة خوفاً من السقوط في اللبس المعطى لكون القصص تحاكي بشكل خاص الشارع السوري وربّما في العموم الشارع العربي، وهذا ما يشكّل لدى البعض مما قدّمته، حول تطرقي للهيكليّة البنائيّة للقصص وبين حدس المتلقي الذي لامست شعوره كنايات القصص، وهو ما خلق جدلاً ومعارضة بين ما هو نقدي فنّي وبين حالة البدع التي أجاد الكاتب في إصابة مقتل متلقيه.
في القصة القصيرة «بطيخة» قلت:
مما لا شكّ فيه فإن دال العنوان منذ المطلع الأول للكلام يؤكّد مسار القصة، فكلمة «بطيخ» وحدها في أي معطى أدبي عربي تعني الذهاب إلى ما يسمّى «الكوميديا السوداء، في تلك القصة برع الكاتب في تصوير الحال من خلال حواريات مقتضبة بين الزوج والزوجة، بين بائع البطيخ وزبونه الأول ثم التالي وهذا ما سهّل على القارئ تسلم سبحة الدوال بيسر، رصد رائي لشارع غارق في التناقضات، وتصويري لقصص الغاب، الأقوى، الأغنى، وكل هذا مألوف وربما مطروق لكونه يومياً عدا ما افتعله الكاتب من جدل مصيري بين الحصان الذي يجرّ عربة البطيخ وبين الكلب الذي كان يناوشه.. والقصة بكامل وعيها هنا.. سخط الحصان المربوط واستشرار الكلب السائب.
فنياً، ذهب بناء القصة نحو معمارها العادي من استهلال ومتن وقفلة..
أما قصة «ورقة كرمى قرميدية»، لعلّ الكاتب أراد من العنوان أن يكون إيهامياً منذ المطلع على عكس القصة الأولى التي سلمت مفاتيحها مباشرة للقارئ العليم، وهذا ما نسميه نقدياً سلطة الكاتب على نصّه، فالمراد من العنوان كمال قال جان جينيه الفرنسي، أما يكون دلالياً أي مأخوذ من المتن أو إعلانياً يراد به الترويج أو غاوي وهو ما نحى به الكاتب لاصطياد قارئه، ليدخل بعدها ومن خلال جردة استرجاعات طويلة لإبطاله يتكأ عليه كمداميك تنتهي عند النهايات بقفلة، تكاد تكون مفصل القصة، حكاية الحياة والموت، الرفقة، الحب العتيق.. عند الخاتمة يمكن أن يتلمّس القارئ بأن كل شيء حوله قد توقف.
في قصته «حياة مواطن» أشي بأنّها والدساتير النقديّة لا تتماشيان معاً من مأخذ هيكلها المعمارية بما يطلق عليه قصة، فهي ليست أكثر من ورقة استطاع الكاتب تمرير الكثير من مهاراته اللغوية وتجييرها للمقولة التي أراد اللمز إليه، وهذا النوع في كثير من الأحيان يشكّل القراء من باب أن إسقاطات تلك الورقة تقارب محاكاة القصة القصيرة الفنّية..
كذلك تنطبق الحكاية ذاتها على «الكفّ المقلوبة» فإن استهلالها أتى كخبر أو مقولة اخباربة تناولت حكاية «التيس الديري» الذي يدر حليباً شافياً، ولكنها ذهبت أي الورقة هذه نحو تناولات القصة أو حتى الرواية من باب تطرّقها لتصاوير الشارع العام وقد استطاع رصد وتصوير خوائه من خلال تلك الإسقاطات والتي قد نجدها بالمحمل ذاته فيما أطلق عليه «اغتيال خائن»..
«نبيل جديد» السوري أو في ما أُطلق عليه «ختيار الحبر»، قدّم تصاوير واقعية وهي إفراز يومي متصل منفصل، استطاع جرها من هالة الهلام الموارب إلى حال الإشارة التي يمكن لأي منّا نحن القراء، أن يشير ببنان الكلام: هذا الرجل يقصدني أنا!
بطاقة:
القاص نبيل جديد 1953 اللاذقية. صدر له: «الرقص فوق الأسطحة» 1977، «الأولاد» 1982، القوزلي 1985، تحت الطبع مجموعة بعنوان «الخوف».
كاتب عربي/ فيينا.