د. شفيقة منصور غربية لـ «البناء»: العدوانية صفة مكتسبة وليست جزءاً من عوارض الاضطراب السلوكي
تحقيق ـ عبير حمدان
يخطئ من يطلق صفة «متخلفين» على الأطفال الذين يعانون من طيف التوحد، هم «مختلفون» ولديهم مهارات تميّزهم عن أقرانهم، وقد يصل بهم الأمر إلى درجة التفوّق في الكثير من المجالات.
لعلّ كمية المحبة التي يقابلونك بها تكفي لتدرك أنك تحتاج إلى جهد مضاعف لتبرع في التواصل معهم، وتبقى الإشكالية في غياب التوعية الفعلية ضمن مجتمع لا يعرف كيف يتقبّل هذه الحالات التي تتصاعد وفق الإحصاءات العالمية، مع غياب علمي لهذه الإحصاءات في لبنان، وفق ما قالته الدكتورة شفيقة منصور غربية المختصة في التحليل والتعليم السلوكي لـ «البناء»، مشيرة إلى أنها بدأت بتدريس هذا الإختصاص في الجامعة اللبنانية الدولية ضمن الإطار التطبيقي والنظري.
كثيرة هي المراكز التي تستقبل أطفال التوحد في لبنان ولكن ما يميّز الجمعية العلمية للأوتيزم والتحليل السلوكي» «Ali for ABA Society» التي تأسّست منذ خمسة عشر عاماً أسلوب التعاطي مع هؤلاء الأطفال الذي يجب ألا يكون على خلفية العلاج فحسب، بل هو نمط حياة طويلة يستدعي التعاون بين المقدرة العلمية والبيئة الاجتماعية بإطار فعّال.
التوحد ليس مرضاً إنما إضطراب في السلوك
ومن هنا نسأل غربية عن مسيرتها الطويلة، وما الذي تحقق بعد هذه السنوات، فتقول: «حين عدت إلى لبنان عام 2000 لم يكن العلاج التحليلي والسلوكي المعروف بـ»ABA» معروفاً أو موجوداً، ولا أخفيك أني لمست العديد من التحفظات حول الأسلوب الذي اعتمدته خاصة من الناحية العلمية، ذلك أنّ طريقة التعاطي مع أطفال التوحد كانت رعائية أكثر مما هي علمية، وهذا الأمر كان ينجح مع الأطفال الذين ليست لديهم صعوبات شديدة، وبالتالي هناك إمكانية لانتقالهم الى مرحلة التعليم العادي، ولكن من كان لديه صعوبات كبيرة لم يكن له مكان في المدرسة العادية وبالتالي لا يكون الدمج إلا بالإطار الجسدي وحسب ودون أيّ نتيجة مفيدة إنما مجرد ترويج لأوهام كاذبة للأهل».
وتتابع غربية: «في البداية قمنا بتدريب العديد من الذين يعملون في المراكز إلى أن أسّسنا مركزنا وهدفنا الأول كان العمل مع الأطفال كي يصلوا إلى مرحلة متقدّمة من التفاعل مع محيطهم وتمكنيهم بشكل إيجابي بعيداً عن المساعدة الدائمة للمعلمة المرافقة، وبعد خمسة عشر عاماً أفخر بالقول إنّ مركزنا تمكن من تخريج 25 طفل إلى مدارس عادية من دون أيّ مساعدة من المعلمة المرافقة، و40 طفل مع مساعدة جزئية، وذلك جراء اختيار..»
وتأسف غربية للتوصيفات التي يتمّ تداولها حول هؤلاء الأطفال، فتقول: «الطفل المتوحد ليس متخلفاً إنما هو «مختلف»، من هنا يجب التعريف عنهم بشكل بعيد عن السطحية، الطفل المتوحد يتميّز بمحبّته وتقبّله للآخرين ولو لم يبادلونه بالمثل، ولديه مهارات قد لا يمتلكها طفل عادي».
أما في ما يتصل بالإحصاءات ومدى تصاعدها تقول غربية: «الإحصاءات الأخيرة التي صدرت على صعيد عالمي بيّنت أنّ بين كلّ 59 طفل نموذجي هناك طفل واحد من ذوي اضطراب التوحد، وهذه نسبة مرتفعة.
لا يوجد مختصون فعليون في إطار علمي يمكنهم تشخيص حالة الطفل المتوحد وأحيانا يمكن أن يكون الطفل لديه نمط سلوكي بعيد كل البعد عن التوحد، وقد يكون لديه تأخر عقلي جديد أو أي شيء آخر، ويتم وضع كل هذه الحالات تحت عنوان «التوحد» لذا لا مجال أن تكون الاحصاءات في لبنان دقيقة».
لكن هل توصّل الطب إلى معرفة الأسباب العلمية لهذه الحالات، تجيب غربية: «حتى الآن لا يوجد أيّ تفسير طبّي لهذه الحالة، هناك الكثير من النظريات ولكن لم يتمكّن الطب من تعميمها، ولا يمكننا القول إنه سبب نفسي، يمكن القول إنه هناك استعداد جيني وهذا له علاقة بالعوامل البيئية ويبقى ذلك أيضاً ضمن الإطار النظري، التوحد ليس مرضاً يتمّ تحديده طبياً، إنما هو اضطراب سلوكي يصيب خلايا في الدماغ مسؤولة عن التواصل والتفاعل والمخيّلة. ومن الخطأ التعميم أنّ كلّ الأطفال الذي يعانون من طيف التوحد لا يمكنهم التواصل بصرياً مع محيطهم، أو أنهم جميعاً عدوانيين، العدوانية هي صفة مكتسبة وليست جزءاً من عوارض الإضطراب السلوكي».
وتشير غربية إلى بعض الحالات المتميّزة في المركز مثل «سامي» الذي شارك بلقاء تلفزيوني معها وتفاعل مع مقدم البرنامج بشكل إيجابي إلى حدّ أنه قدّم أغنية أمام الكاميرا، و»إبراهيم» الذي تؤكد أنه سيكون قريباً كأيّ طفل نموذجي، و»مريم» التي تبتكر أشكال إبداعية بواسطة المعجون، لافتة إلى أنّ لكلّ طفل في المركز ميزته الخاصة.
وتختم غريبة بالقول: «أكثر ما يسعدني الآن هو أنّ إمكانية تقديم خبرتي لجيل كامل باتت أمراً واقعاً من خلال الساعات التدريبية ضمن الإطار التطبيقي والنظري التي أعطيها في الجامعة اللبنانية الدولية ومن هنا أؤكد أنّ الاختصاص الذي درسته في بريطانيا أصبح متاحاً في لبنان ولو في القطاع الخاص على أمل أن يصبح معتمداً في كلّ الجامعات، وربما يمكن أن يكون يوماً في الجامعة اللبنانية».
الثقة لترسيخ التواصل
تختلف طريقة التعبير بين طفل وآخر خاصة أمام من ضيف يبحث عن الأجوبة حول كيفية تعاطي المدرّبة، أو «المعلمة» مع الأطفال «المختلفون»، وتخبرنا لونا منصور عن تجربتها معهم دون أن يتوقف العمل في غرفة الصف حيث يستمرّ التواصل بينها وبينهم ولو في حضور آلة التسجيل، فتقول: «التحدي الأكبر يتمثل في المقدرة على التقدّم مع الطفل الذي يعاني من الاضطراب السلوكي الشديد، ولكن هذا الأمر يحفزني بإطار إيجابي، كي أحصل على نتيجة مرضية لي ولهم في نفس الوقت. «سامي» على سبيل المثال لا الحصر كان يعاني من صعوبات شديدة ويقوم بحركات نمطية دون توقف ويصرخ باستمرار ويضرب كلّ شيء حوله ولا يقبل بالجلوس على الإطلاق، ولكن خلال فترة قصيرة جداً بدأ بالتعاون والتعرّف على كلّ الأشياء حوله، ولعلّ استعداد العالي للتفاعل والأسلوب الذي نعتمده بتوجيه من الدكتور غربية ساهم في تطوّر سلوكياته بشكل إيجابي وسريع».
وتضيف منصور: «لديه قدرة عالية للتعاون مع الإشارة إلى أنّ دور الأهل يساهم أيضاً في إحراز نتائج جيدة إذا ما اعتمدوا معه الأسلوب النمطي الذي نعتمده في المركز وبشكل مكثف، اليوم «سامي» تعلم كيفية الانتظار وهو يتميّز بقدرته على الحفظ ولديه مهارات رياضية مثل السباحة».
وتؤكد منصور أنّ العمل الصعب يحفزها لتعطي أكثر، مشيرة إلى لكلّ طفل سلوكياته، فهناك الاجتماعي وهناك من يحاول لفت النظر، وهناك الفنان القادر على الابتكار ولكن في النهاية تبقى الثقة هي المقياس لترسيخ التواصل بين الطفل الذي يعاني طيف التوحد ومعلمته.
اعتماد العلاج المبكر بعيداً عن المتاجرة
قد لا يتقبّل الأهل أنّ طفلهم يعاني من طيف التوحد على الفور ولكن مع الوقت يفرض الواقع نفسه فيكون اعتماد العلاج المبكر ضرورة، ومن هنا تخبرنا دعاء جوني عن تجربتها كأم لطفل لديه اضطراب سلوكي، فتقول: «لم يكن من السهل تقبّل الأمر في البداية، وحين علمت أنّ إبراهيم يعاني من طيف التوحد رفضت الفكرة كلياً حتى أنني تجاهلت الأمر واخترت أن أسجّله في حضانة عادية كباقي الأطفال، لكن مع الوقت لم يتغيّر الحال».
ونسأل جوني كيف لاحظت أنّ إبنها يعاني من مشكلة، فتقول: «كان الفرق في التفاعل مع المحيط واضحاً بين إبراهيم وأخته التي تكبره بأقلّ من سنة، هو كان في الثانية من عمره ولم يكن تفاعله كشقيقته، كأن لديه مشكلة في التعبير والكلام، ولأني لم أتقبّل أنه يعاني من طيف التوحد تأخرت في علاجه ستة أشهر، ولا أخفيك أنني لم أقتنع في بداية الأمر بكلامها حول سرعة التغيّر لدى إبراهيم مع العلم أنني كنت واثقة من صدقها في التعاطي مع الأطفال الذين يعانون من الاضطراب السلوكي كونها أماً لولد لديه توحد، وقد صنّفت إبراهيم في خانة الأطفال الذين يعانون من طيف التوحد بدرجة بسيطة، والآن وبعد ثلاث سنوات أصبحت مقتنعة أنّ أبني سيتمكّن من الاندماج والتواصل مع أطفال نموذجيين قريباً وبشكل كبير».
وتشير جوني إلى أنّ المشكلة الفعلية تكمن في تعاطي المجتمع مع هؤلاء الأطفال، فتقول: «المجتمع يظلم هؤلاء الأطفال ويطلق الأحكام المسبقة حول سلوكهم، فهم ليسوا عدائيّين كما يتمّ التعميم، وقد عانيت من رفض المجتمع لحالة إبني في أكثر من مناسبة فحين أكون في مكان عام ألاحظ كيف يرفض البعض اندماج أطفالهم مع إبراهيم ولكن في الحقيقة لم أعد أتأثر كثيراً بهذه التفاصيل وأقول لهؤلاء الرافضين أنّ إبني يمنحني القوة ولا أخجل به أبداً، بل أكثر من ذلك حالة ابراهيم حفزتني كي أعود إلى مقاعد الدراسة وسأتابع دورات مكثفة في العلاج والتحليل السلوكي لأجله ولأجل كلّ الأطفال الذين يعانون من طيف التوحد».
وتختم جوني بالقول: «حين نجد من يدعمنا في محنتنا تصبح الامور أكثر سهولة، وهنا أشير إلى أنّ التفهّم الذي لمسته من أهلي والمحيط الذي أنتمي إليه أنا وإبراهيم ساهم في تقبّلي للأمر بشكل إيجابي، لذلك أدعو إلى نشر الوعي في هذا الإطار وليس لفترة محدّدة يتحد فيها العالم حول التوحد بل في كلّ لحظة لأنّ هؤلاء الأطفال جزء لا ينفصل عن المجتمع ويستحقون كلّ الاهتمام والحب».
دراسة معتمدة عالمياً
إنّ التحليل السلوكي ABA في التدخل المبكر لذوي اضطراب التوحد معترف به عالمياً كعلاج علمي ومدروس لتعليم الأولاد المهارات التي يحتاجونها في حياتهم اليومية وكذلك لتعديل سلوكهم وتعليمهم سلوك ملائم للتواصل مع محيطهم. كانت هناك دراسات عديدة في ABA المستند على برنامج Lovaas ولم يكن هناك دراسات علمية عن البرنامج الكامل للتحليل السلوكي واللفظي للعالم Skinner في التحليل السلوكي واللفظي ABA/VB .
من المقوّمات الأساسية في ABA/VB استعمال استراتيجيات التحفيز الإيجابي لزيادة السلوك المناسب والتخفيف من السلوكيات الغير ملائمة.
وقد قامت دكتورة غربية بدراسة لجامعة برونيل البريطانية تناولت فيها فعالية برنامج التحليل السلوكي واللفظي ABA/VB في تعليم الأولاد الذين يعانون من التوحد. ولقد أبرزت هذه الدراسة والتي هي الأولى من نوعها في العالم الغربي والعربي عن مدى فعالية ABA/VB في تعليم عشرة أولاد يعانون من التوحد. كما أظهرت قدرة الأولاد على التعلم وذلك من خلال اكتسابهم للمهارات الأساسية في التطور الاجتماعي والتواصلي واللغوي والأكاديمي وتعميمها في محيطهم، بالإضافة الى التغلب على المشاكل السلوكية للأولاد وانخفاض مستوى توتر عند الأهل.
نتائج هذه الدراسة تعطي مؤشراً واضحاً بأنّ تطبيق ABA/VB واستعماله في تعليم الأولاد ذوي اضطراب التوحد يعمل على تحقيق الأهداف التعلمية للأولاد منها الأكاديمية، التواصلية، الحركية الاجتماعية والسلوكية وغيرها.
وهذه الدراسة تمّ طبعها ككتاب من قبل دار نشر عالمية لتصبح مرجعاً معتمداً على الصعيد العالمي.