كمال جنبلاط يتبرّأ من ورثته!
د. وفيق إبراهيم
يُمعِنُ الراحل كمال جنبلاط في التمعّن في حالة إرثهِ السياسي الذي تركه في لبنان منذ اثنتين وأربعين عاماً، فلا يجدُ أثراً للاشتراكية والتقدّمية في حزبه، كما أنّ تقدّميته التي كان يعتز بها أصبحت توغلاً في رجعية موصوفة بارتمائها في أحضان الأميركيين والسعوديين والطائفيين، حتى أنّ الموحدين الدروز الذين كان القائد كمال جنبلاط يعتزّ بعنفوانهم العربي، وصمودهم الوطني، أصبح يخشى عليهم من مشاريع الفتن الداخلية التي يلجأ إليها ورثته للاستحواذ عليهم في سبيل تأمين مصالحهم في الفساد الاقتصادي والسياسي والمشاريع الخارجية المشبوهة. وما أصابه بذهول أكبر وإضافي يتعلق بوريثه المباشر الذي بنى عليه آماله بتوفير ظروف الاستمرار لنهجه الوطني التقدّمي.
هذا الوريث استشعر انّ المشروع الأميركي بصدد تدمير سورية بعد العراق مباشرة ومنذ أواخر القرن العشرين فأيّده منصاعاً ومزايداً بالتحالف مع الحريرية السياسية السعودية التمويل والهوى، والقوات اللبنانية التي شاركت في اجتياح بيروت مع القوات «الاسرائيلية» عام 1982 ونسجت في السنوات الأخيرة علاقات عميقة مع بلدان الخليج.
وريث قائد الحركة الوطنية بشخصه كان أحد السياسيين اللبنانيين الذين التقوا بكونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية في سفارة بلادها في بيروت 2006 واتفقوا على ضرورة القضاء على حزب الله…
هذا الوريث اصطفّ استراتيجياً مع الخط الأميركي السعودي الذي يراعي مصالح «إسرائيل»، لكن أبا تيمور ظلَ يميل مع ميلان موازين القوى، فعندما ينتصر حزب الله يصمتُ متظاهراً بحيادية وقواسم مشتركة وسرعان ما يعود إلى خطه الأميركي السعودي عند إحساسه بأيّ تراجع للفريق الوطني.
للإشارة فإنّ خسارة الإرهاب في غرب سورية فرضت على الوزير وليد جنبلاط المزيد من التردّد والمواقف المبهمة مقابل تصعيده في افتعال خلافات داخل الصف الدرزي للنيل من منافسيه المتحالفين مع المقاومة، مهدّداً وجود الموحدين الدروز غير مرة، ومحاولاً دفعهم للتصادم الداخلي.
يكفي أنّ الإرث السياسي لكمال جنبلاط انحدر مع الوريث من الدفاع عن الدولة ومصالحها والالتزام بحقوق الناس الى مستوى من الفساد المالي والسياسي لا مثل له منذ تأسيس لبنان الحديث. فالوريث وليد جنبلاط يتباهى على شاشات التلفزة بأنه «فاسد مثل غيري» كما يقول، كامناً لكلّ صفقة تعقدها قوى النظام الطائفي مطالباً علناً بحصّته فيها، مطلقاً تغريدات حول الفساد والانحطاط.
ولا تتوقف هذه التغريدات إلا بعد إرضائه بما تيسّر فيسكت متباهياً بالسياسة اللبنانية.
أهكذا كان كمال جنبلاط المعروف عنه استقامته ونزاهته وانتماؤه إلى جيل نظيف السمعة بين معاصريه من الفاسدين وكانوا كثراً.
لقد أصيب كمال جنبلاط بذهول لهذا المستوى من الانحدار السياسي مع غياب كامل للالتزام السياسي النظيف.
بيد أنّ ما أصابه في كبريائه وبشكل أكبر هو تمادي وريثه في مسألتين: فلسطين والحقوق اللبنانية في مزارع شبعا وكفرشوبا.
وهما في الأصل قضيتان مترابطتان لأنهما محتلتان من قبل العدو «الاسرائيلي».
ويبدو أنّ الأميركيين وضعوا الوزير جنبلاط في أجواء مشاريعهم الجديدة لجهة تفتيت سورية بإنشاء دويلة كردية في شرق الفرات وإنهاء القضية الفلسطينية باستتباع الضفة والقدس والأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا وكفرشوبا والجولان السوري المحتل للكيان «الإسرائيلي» الغاصب.
فكيف يُمكن للوزير جنبلاط ان يهاجم الدولة السورية ورئيسها في الوقت الذي يقوم فيه الموحدون الدروز في الجولان المحتلّ بأوسع تظاهرات مؤيدة للرئيس الأسد والدولة السورية مستنكرين الإعلان الأميركي بضمّ الجولان لأراضي الكيان الغاصب، علماً أنه يعرف أيضاً أنّ الجيش السوري وتحالفاته هم الذين قضوا على الإرهاب في سورية، وأنّ هذا الإرهاب كان مدعوماً من حلفائه الأميركيين والسعوديين، و«الإسرائيليين» ايضاً.
المهمّ هنا، انّ ادّعاء جنبلاط بلا لبنانية المزارع المزارع في شبعا وكفرشوبا هو إعطاء ذريعة للرئيس الأميركي ترامب ليعلنها «إسرائيلية». وهذا يتضمّن أيضاً اعترافاً بـ «إسرائيلية» القرى السبع المحتلة، وايضاً بـ «إسرائيلية» المناطق اللبنانية التي تزعم «إسرائيل» بملكيتها عند حدود لبنان البحرية والبرية مع فلسطين المحتلة.
يتضح في النهاية أنّ الوزير جنبلاط يمارس السياسة بعقلية السماسرة الذين يُسَوقون الرمول والبحص والترابة.. أترى نسي القائد كمال جنبلاط أن يعلّم وريثه بأنّ السياسة طابقان: براغماتي يجوز فيه كلّ شيء من الشعوذة والألاعيب، ووطني يتعلقُ بالكيان السياسي وحدوده الدولة، وهذا مقدّس وثابت، إلا أنّ الوريث هنا يتعامل مع الشقّ الوطني وكأنه صفقة من تراب معامله في سبلين، فتصبح شبعا وكفرشوبا غير لبنانية، ويقاتل دروز الجولان من أجل عروبتهم وسوريتهم كلاً من ترامب و«إسرائيل» ووليد جنبلاط.
ماذا بقي إذاً من تراث كمال جنبلاط؟
أساء ورثته في حزبه و«دارته» إليه، لكن «المعلم» كما كان يُدعى، يبقى علماً عربياً ولبنانياً من بيارق الالتزام المسؤول بالناس والوطن، ويظلّ موجوداً في قلوب محبّيه من كلّ اللبنانيين حتى ولو تخلى عنه ورثته السياسيون والبيولوجيون.