أزمة العراق ليست محصورة في الفساد الأمني فأين المشروع الوطني ـ الديمقراطي؟

د. وفيق ابراهيم

إنّ احترام المرجع العراقي السيد علي السيستاني كبير جداً، وتقدير رأيه الذي اعتبر فيه أنّ الفساد الأمني هو السبب في الأزمة الحالية للعراق رصينٌ أيضاً، لكنه يستحقّ المناقشة لبحث أعماق الأزمة ومسبّباتها الحقيقية.

ولا بأس من الاستظلال بالمقولة التاريخية التي ترى أنّ الفساد سياسي، وينسحب على القطاعات الأخرى، فالفساد هو فساد المشروع السياسي بأجهزته السياسية القيادية الحاكمة… نعم يتوجّب الإقرار بوجود مشروع سياسي جديد أعقب مشروعاً سياسياً حكم العراق منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى تسعينات القرن الفائت، بعقلية الاستئثار السياسي والمالي والأمني، فراكم فساداً ديكتاتورياً هائلاً من المرحلة الهاشمية فيصل وحتى المرحلة البعثية صدام .

لم تختلف المرحلة الأميركية التي تلت احتلال الأميركيين للعراق، الذين استخدموا إمكانات أرض الرافدين لرشوة قوى واستعمالها ضدّ أخرى، وخرّبوا الحدّ الأدنى من التضامن الاجتماعي بين عرب العراق سنة وشيعة، ونسفوا آخر ما تبقى من وشائج بين العرب والأكراد، مؤسّسين لمشاريع دول وأقاليم متحاربة، ولم يغادروه إلا بعد محن ودماء مسلّمين السلطة في بغداد إلى حزب الدعوة المقرّب من مرجعية السيد السيستاني في انتخابات نزيهة نسبياً.

وكان المعتقد أنّ الحكام الجدد في صدد الاستفادة من تاريخ العراق، وخصوصاً من مرحلة سياسة التشظي الأميركية على المستويين المذهبي والعرقي، لكنّ ما جرى أثبت بما يدحض كلّ شك أنّ المشروع الجديد حاول أن يلعب، بدوره، على التناقضات بين العراقيين، فيستميل عشيرة ويستعدي أخرى، يداعب الأكراد مرة وينفر منهم مرة أخرى. ولمزيد من التوتير كان ممثل المشروع الجديد نوري المالكي، يتعمّد زيارة المراقد والأولياء عند كلّ اشتباك مع أهل الأنبار والموصل، للاحتماء بالمذهب وعصبياته، فيضفي بذلك أبعاداً مذهبية على لعبة صراع سياسي، ويردّ على المذهبية بمذهبية مماثلة.

لم يتمكن المالكي من إنتاج قواسم مشتركة مع نصف العراق تقريباً، فبدا الرجل الذي حكم العراق المحرّر تسع سنوات والمحتلّ ثلاث سنوات، كالمكتفي بالشعبية الشيعية للنظام، لا يريد غيرها إلا بأسلوب الانصياع والديكتاتورية، فسمح بذلك لكلّ أوكار الإرهاب التكفيري والسياسي بالاستيطان في المنطقة المذكورة، وأباح بذلك العراق لتدخل ثلاثي أميركي سعودي تركي، وقد وجد هذا التدخل منشطات لحركته بين السنّة العرب والأكراد الساخطين على حكومة بغداد، وبعض الطامحين الشيعة من عرب أميركا، فتحولت منطقة كردستان ومحافظتي الموصل والأنبار إلى بيئات حاضنة ومعادية للنظام الجديد.

ولتأمين المزيد من الداعمين له، أخلى المالكي كلّ المؤسسات الرسمية من أجهزة رقابة، فنخر الفساد عظم العراق وسط صمت لا تفسير له من الحلفاء، وتجاهل غير مبرّر من المرجعيات التي كانت تستقبل المالكي عند نشوب الأزمات.

لقد أنتجت هذه المرحلة مشروعاً ديكتاتورياً أراد الإمساك بتلابيب العراق ومكوناته على طريقة صدام حسين، بدل أن يعمل على دعم الوحدة الوطنية، فتحوّل بموازناته الضخمة أكثر من مئة مليار دولار سنوياً إلى مفسدة كبرى فيها مؤسسات بدائية مدعومة مذهبياً وعرقياً، وتملك جيشاً تبيّن أنه ليس أكثر من هيكل عظمي على الرغم من ضخامة عديده، نشر في مناطق تضمر له العداء والضغينة وتعامله كجيش احتلال.

إنّ غياب المشروع الوطني الفعلي الذي يستند إلى العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو الذي أوصل العراق إلى ما هو عليه، والفساد الأمني ناتج وليس سبباً أصيلاً، فالأميركيون هم سبب أساسي لما يجري في العراق. لكن، ماذا عن عملنا ودورنا؟ ولماذا لم نطرح بديلاً أو نتقدّم بتحسينات عميقة في بُنى النظام السياسي؟ وكيف تركنا الفكر المذهبي و«القاعدة» و«داعش» ينتشرون من دون مقاومة حكومية ودينية؟ ولماذا لم نبنِ جيشاً فعلياً، ما كان ليسمح بالمهانة الكبيرة التي حدثت في الموصل والأنبار أو كان على الأقل، حدّ من تداعياتها على المستوى العراقي والسوري ـ اللبناني؟

لا يرمي هذا الكلام إلى كيل الاتهامات، بل يطمح إلى إعادة الاعتبار إلى مشروع وطني فعلي، يعيد التماسك إلى أجنحة هذا البلد المهمّ. فالعراق غير المقيّد بأزماته الداخلية صاحب دور إقليمي هامّ وأساسي. فهو البلد العربي الوحيد الذي يربط بين أهمّ أربع دول إقليمية كبرى إيران ـ تركيا ـ سورية والسعودية، وفيه ديمغرافيا عربية كبيرة في منطقة شبه فارغة، 35 مليون نسمة على مساحة تقلّ عن 350 ألف كيلو متر مربع، مقابل 25 مليون نسمة على مساحة أكثر من 2 مليون كيلو متر مربع هي مساحة مجلس التعاون الخليجي، هذا بالإضافة إلى غناه بالنفط كمية ونوعية، وبالمياه، لذلك أرادوا عرقلة بغداد من خلال إنتاج متعمّد لاحتراب بين قواها الداخلية بهدف منعها من الخروج إلى الإقليم. فعراق محرّر سيقف إلى جانب سورية وهي تقاتل 80 دولة وتنظيمات إرهابية، ولن يكون إلا إلى جانب فلسطين ولبنان والأردن، مداه الطبيعي وانتماؤه التاريخي.

المطلوب إذاً وحدة المكوّنات في إطار شعب عراقي موحّد يستطيع ضبط الجنون السعودي والخفة القطرية وغطرسة الأتراك. فمتى تعودون يا أهل الرافدين؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى