جنبلاط يُجدّدُ «زمان الوصل» مع الباب العالي!
د. وفيق إبراهيم
النائب تيمور جنبلاط مع وفد حزبه «الاشتراكي» في تركيا، هو أمر عادي يحدث كثيراً في التفاعلات السياسية للدول، لكن ما يجعله مستهجَناً الى حدود الذهول هي المهمة المكلّف بها والتي تعاود إحياء «الوضيع» من التاريخ، وتبدأ تراثياً بالإعراب عن الخضوع والانصياع كسالف الأيام.
لكن تيمور توغل بعيداً في تقمّص الدور مناشداً ورثة الدولة العثمانية حماية الموحّدين الدروز في منطقة إدلب «السورية» التي يحتلها الجيش التركي بالتعاون مع جبهة النصرة الإرهابية.
فتبدو هذه الحركة إنسانية في الشكل وترمي في الوقت نفسه إلى إعادة تجميع الدروز تحت الراية الجنبلاطية.
أما عمقها فخطير جداً وله علاقة بالضغوط الأميركية الأوروبية الخليجية التي تؤبّد بقاء حلف الأتراك مع جبهة النصرة في مناطق إدلب وعفرين لحماية المدنيّين والحيلولة دون تهجيرهم كما يزعمون، أفلا تندرج المبادرة الجنبلاطية ضمن هذا السياق المشبوه؟
لمناقشة مبادرة جنبلاط في وجهيها الظاهري والعميق يجب التركيز على مخالفتها للقانون الدولي الذي يرفض الاعتراف بأيّ مرجعية للدول على أرضٍ تحتلها في بلد آخر. وهذا ما ينطبق على تركيا في الأجزاء الشمالية والشمالية الغربية التي تسيطر عليها في سورية.
هناك مخالفة أخرى، وتتعلّق بطلب النائب تيمور جنبلاط الحماية لمواطنين من بلد آخر تحتلّ أراضيهم دولة ثالثة. فالدروز في إدلب هم سوريون ارتكب بحقهم إرهاب داعش والنصرة مجزرة بتغطية تركية
فكيف نطلب من مرتكب المجازر التركي تغطية سوريين بقتلهم يومياً؟ ألا يدخل هذا الأمر في إطار العمالة والانصياع؟ أم أنه يشكل جزءاً من خطة دولية؟
فيكون النائب تيمور ووفده المرافق بذلك قد اعتديا على السيادة السورية معترفين بالاحتلال التركي، والأهمّ أنهما يسيئان إلى كرامة «موحّدين دروز» يتمسّكون بكراماتهم ولا يعرضونها للبيع ملتزمين بوطنهم وسوريتهم.
وهؤلاء لا يقبلون أيضاً التمييز بينهم وبين أشقائهم السوريين الآخرين الذين تعرّضوا لمذابح من الإرهاب التركي والخليجي والاميركي.
وإذا كان الإقطاع اللبناني يشتاق إلى زمن «الباب العالي العثماني» فإنّ الإقطاع في سورية ولّى إلى غير رجعة، ورحل معه «العثماني» بقوّة نضال السوريين الذين أرغموه على مغادرة أراضيهم بالقوة المسلحة وليس بالتوسّل.
هناك نقطة إضافية ترقى الى زمن اعتراف جنبلاط ومنذ سنوات عدة بجبهة النصرة الإرهابية ومطالبته آنذاك بالاعتراف بها ممثلاً للشعب السوري وإيلائها مناطق تعترف بها الأمم المتحدة.
ما يمكن استنتاجه أنّ الوفد الجنبلاطي في اسطنبول بمهمة حصرية وهي ربط علاقات مع النصرة برعاية تركية.
في المقابل هناك جهتان، لا يحقّ لهما تجاهل عمل الوفد الجنبلاطي الذي لا يخترق سيادة سورية فحسب، بل دور الدولة اللبنانية المنوط بها حصرياً مسألة العلاقات الرسمية مع الدول وعدم السماح لأطراف لبنانية بانتهاك سيادات دول شقيقة. فالوفد الجنبلاطي غير الرسمي يناقش قضايا لم تكلفه بها الدولة اللبنانية وتتعلّق بمواطنين سوريين ومع دولة تركية تحتلّ مناطقهم، أليس هذا أغرب ما يمكن أن يحدث في العلاقات الدولية وحتى بين بلدان شقيقة؟
لقد كان بإمكان الوفد الجنبلاطي أن يذهب مثلاً الى روسيا بهدف حماية الدروز الإدلبيين باعتبار أنها تؤدّي دوراً عسكرياً بطلب من الدولة السورية الشرعية.
وموسكو ليست مقفلة حتى الآن بوجه الجنبلاطيين.
فلماذا العودة إذاً الى «الباب العالي»؟ لعله الحنين إلى زمن «القناصل» والإقطاع المتزلّف والانصياعات.
لذلك، فالدولة اللبنانية مطالبة بالإعلان انّ مهمة الوفد الجنبلاطي في تركيا مناقضة لأهداف لبنان الرسمي بشكل كامل ولا تعنيها لا من قريب ولا من بعيد، مع إصرارها على حصرية حق الدولة السورية في حماية المدنيين السوريين بكامل طوائفهم وانتماءاتهم.
أما على المستوى الآخر للنقاش فيتعلّق بحلف المقاومة الذي يتعامل مع الجنبلاطيّة السياسيّة بعقلية الصفح والمهادنة ولاعتبارات داخلية وخاصة بالمجلس النيابي بما يعني أنه لم يعد مقبولاً على الإطلاق التحالف مع جنبلاطية تشتم سورية والرئيس الأسد يومياً وتذهب في بعض الأحيان الى مهاجمة المقاومة وتطلب إنهاء أدوارها.
وما هو أكثر أهمية في المرحلة الحالية، ثلاث مسائل مترابطة لم يعد بالإمكان القفز عنها وتجاهلها: موقف الجنبلاطيّة من التخلي عن مزارع شبعا وكفرشوبا وارتباطه المكشوف بضرورة وقف المقاومة، تكليف الأتراك المحتلين بالاهتمام بالدروز في إدلب المحتلة من «الباب العالي» والاستمرار في رشق الشتائم نحو الدولة السورية ورئاستها.
فهل هي تقاطعات بريئة… الاعتراف الجنبلاطي بالاحتلال التركي في إدلب ودعم الجيش التركي المحتلّ للنصرة الإرهابية في إدلب ومناشدات أوروبية وأميركية وخليجية لحماية المدنيين في إدلب؟ هذه محاولات لمنع الجيش السوري وحلفائه من تحرير إدلب والمناطق المجاورة، لتمديد الأزمة السورية إلى أجل غير معروف ومنع البدء في الحلّ السياسي.
لذلك، فإنّ هذا الجهد الجنبلاطي ينسكب تدريجياً في إطار الاندماج في المشروع الأميركي الخليجي المسرع نحو تفتيت سورية وقبل أن تستفيق الجنبلاطية من سباتها. فالمسألة أكبر من معامل ترابة وحديد، ولها علاقة بمصير أمة وشعوب هي آخر اهتمامات إقطاع لا يرى إلا مصالحه الخاصة مستعملاً الناس وقوداً لتحقيقها.