حتى «المجدّرة» لها شروط… فما بالك الثورة!
نصار إبراهيم
«الثورات في هذا الزمن الرديء خدعتنا ولوّثت أجمل أحلامنا.. فوداعاً للثورات النقيات التي قتلتها ثورات الناتو وثواره.. الثورات الملوّنة أسقطت كلّ رغبة في ان نحب الثورات ونثق بها.. الثورات صارت مهرمنة ومعدلة وراثياً كما الحبوب واللحوم المسمّنة.. حيث تمكّن علم نفس الجماعات وسيكولوجية الجماهير من القاء القبض على أسرار الانفعالات وكيمياء الغضب والمفاتيح النفسية للتمرّد المجتمعي وعلم الثورات..
فكلّ الثورات اليوم تقوم في بلدان تحاول ان تستقلّ بقرارها وتميل للانعتاق من جدول شروط الاستعباد.. حتى صارت الثورات حكراً على قائمة الدول التي تزعج أميركا.. فلماذا يشتعل العالم بالثورة والثوار؟ ولكن كلّ الثورات تتوقف عند حائط دول النفط التي هي في أمسّ الحاجة لكلّ أنواع الثورات.. ثورات الكرامة وثورات العدالة وثورات الديمقراطية وثورات الإنسان وثورات الدين.. كلّ شيء فيها يمكن ان يحرك ثورة فرنسية وبلشفية وإسلامية في آن معاً…» نارام سرجون 15 نيسان 2019 .
حين بدأت «ثورات» ما يسمّى بالربيع العربي قبل ثماني سنوات كانت في بعض أبعادها تعبيراً عن ردّ فعل شعبي غاضب على واقع الاستغلال والبؤس وسياسات وممارسة الأنظمة الرجعية البوليسية وضدّ الهيمنة الاستعمارية، غير أنّ صيرورة الأحداث لاحقاً وما تمخض عنها من ديناميات تدميرية في سورية وليبيا والعراق ولاحقاً في السودان بيّنت أنّ تلك الحراكات لم تكن عفوية كما تبدو عليه، أو على الأقلّ لم تحافظ عل عفويتها ووطنيتها، حيث دخلت في حالة من العماء على مستوى الرؤية والوعي والأهداف، ثم تحوّلت إلى أداة للتدخلات الخارجية والقوى الرجعية الإقليمية والداخلية، التي وظفت الفكر الظلامي والشحن الطائفي لتدمير بنى ومؤسّسات وجيوش الدول الوطنية وإغراق المجتمعات العربية في فوضى الاستنزاف والتدمير الذاتي قتلاً ودماراً ونهباً وتمزيقاً.
هذا الواقع لا يعني أبداً أنّ نزول الجماهير للشارع للمطالبة بالتغيير والنضال من أجل الحقوق الاجتماعية والوطنية أمر محظور أو خاطئ، بل إنه ضرورة اجتماعية وتاريخية.. غير أنّ نجاحه مشروط بتـأمين شروط التغيير وضبطه لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية واضحة.
انطلاقاً من هذه الحقيقة يمكن القول إنّ المعضلة الأساسية التي عانت منها الحراكات الشعبية التي قامت في المجتمعات العربية تجلت في افتقادها للقوى السياسية المنظمة والنخب الثقافية التي تملك رؤية واستراتيجية سياسية اجتماعية ووطنية وقومية واضحة للتغيير… لهذا كانت تلك الحراكات أكثر تلمّساً لما لا تريد من قدرتها على تحديد ما تريد..
لهذا اندفعت تلك الحراكات الاجتماعية وبعفوية وراء شعارات تبدو جاذبة، لكنها في الممارسة راحت تتحرك تحت ضغط الأحساس بالقهر من الواقع المعاش أكثر من وعي ذلك الواقع بعمق، بل لقد أظهرت التجربة جهلاً حقيقياً بأسباب حالة الانحباس التي تعاني منها المجتمعات العربية من فقر وجهل وتخلف وقمع وتبعية، وهذا ناتج عن غياب النخب الثقافية والقوى السياسية التي تمتلك رؤية واستراتيجيات واضحة للتغيير، الأمر الذي أسقط الحراكات الجماهيرية في مصيدة القوى الاستعمارية الخارجية والقوى الرجعية الداخلية التي ركبت حالة الغضب تحت شعارات خادعة من نوع «الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان»، مع أنّ تلك القوى الاستعمارية والرجعية هي في الحقيقة سبب وعامل عضوي في ما تعاني منه المجتمعات العربية من قهر واستغلال ونهب وتقسيم واحتلال وخضوع وتبعية.
هذا التناقض بين معضلات الواقع من جانب والرغبة في التغيير من جانب آخر، وعدم وعي متطلبات وشروط التغيير الذاتية والموضوعية من جانب ثالث، أدّى إلى خلط مروِّع ما بين الشعارات والنتائج، بين الرغبة والواقع، بين الرغبة في التغيير وامتلاك شروط ذلك التغيير، بين البداية والنهاية، بين النوايا الحسنة والواقع المعقد والملتبس.
في ضوء هذا التناقض وفي غمرة الانفعال الجمعي تمّ على سبيل المثال الخلط بين مفهوم النظام ومفهوم الدولة في الشعار الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي رفعته الجماهير أثناء تحرّكها، حيث أصبحت الدولة بما هي نتاج بنى ومؤسسات وإنجازات راكمتها الشعوب العربية عبر التاريخ وكأنها معادل للنظام المشخص بأفراد في هذه الدولة العربية أو تلك، فأصبح الجيش الوطني هو جيش النظام، والوزارات وزارات النظام، والبنى التحتية من مدارس ومستشفيات وكهرباء وسدود وجسور وطرق وسكك حديدية ومطارات وصوامع ومطاحن ومصانع وحقول وثروات طبيعية وبيئية وآثار وتراث ومتاحف وكأنها خاصة بالنظام… وبالتالي تمّ تشريع تدميرها باعتبار ذلك شرطاً للتغيير، أيّ بالضبط كما يقول المثل التركي «يحرق اللِّحاف للتخلص من برغوث».
خطورة هذا الخلط تكمن في كونه شكل جسراً لعبور وتدخل القوى الخارجية التي هدفها: تدمير الدول ومؤسساتها وخاصة الجيوش الوطنية ونهب وتدمير ثروات المجتمع وكلّ ذلك باسم «الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان».
هذه الحقيقة تعيد تذكيرنا بأهمية وقيمة الموقف العميق الذي قصده لينين بمقولاته الشهيرة لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية و أعطوني منظمة ثورية أقلب لكم روسيا رأساً على عقب ، بمعنى أنّ أيّ حركة ثورية أو أيّ حراك أو قوّة تستهدف التغيير الاجتماعي الجدّي الإيجابي عليها أن تملك أولاً قوة منظمة، وثانياً أن تمتلك تلك القوة أو القوى أو القيادة رؤية وأهدافاً واستراتيجية واضحة للتغيير، وهذا شرط كي لا تتحوّل الحركة أو الحالة الشعبية إلى أداة عمياء بيد القوى الخارجية المعادية، أو أداة تدمير ذاتية داخلية.
هذا الواقع الملتبس عانت منه أيضاً بعض التجارب العالمية التي اعتمدت وقدّست الحركة لمجرد الحركة أيّ التركيز على البراكسيس بدون وعي شروط التغيير الموضوعية والذاتية، وكمثال على ذلك الشعار المعروف الذي رفعه ادوارد برنشتاين أحد منظري التيار الانتهازي في الاشتراكية – الديمقراطية العالمية في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا «الحركة كلّ شيء، الهدف النهائي لا شيء»، وفي ذات السياق جاء شعار «خطوة عملية خير من دزينة برامج».. هذه الشعارات تبدو للوهلة الأولى جذابة مقنعة وعملية.. لكنها في العمق ضحلة وضارة جداً.. إذ لا يمكن بناء حتى مجرد كوخ من خشب بدون تحديد الهدف وبدون امتلاك الأدوات والإمكانيات ووعي شروط عملية البناء ومتطلباتها، كما لا يمكن طبخ طنجرة من المجدرة بدون توفر متطلباتها ومعرفة طريقة طبخها… كما لا يمكن النجاح بزراعة صاع من القمح بدون معرفة حالة الأرض والمناخ جيداً.. فما بالنا والحديث يجري عن «ثورة» أو «انتفاضة شعبية» أو»تغيير اجتماعي جذري»!
فمن يندفع نحو المستقبل مغمض العينين عليه أن لا يبكي لاحقاً حين يجد نفسه في حفرة لا مخرج منها…
هذه الحقيقة أدّت إلى إضاعة الكثير من الأهداف الكبرى بسبب الاندفاع وفق غريزة القطيع.. هذا بالضبط هو بعض حال الواقع العربي الذي أشرع الأوطان للتدخلات الخارجية وجعل منها مزارع للعبودية والخضوع للدول الاستعمارية ومؤسسات النهب العالمية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها…
ومن الأمثلة التاريخية المعروفة على مثل هذا الواقع المحزن نذكر «حركة تحطيم الآلة» أو الحركة «اللادية» في بريطانيا Luddite وهي حركه اجتماعية ثورية نشأت في إنجلترا، مع بدايات الثورة الصناعية في أوائل القرن التاسع عشر، فمع انتشار الآلات التي راحت تحلّ محلّ العمال في مصانع الصوف رأى العمال فيها تهديداً لمصدر رزقهم وسبباً لبطالتهم، فأسّس الجنرال «نيد لاد» حركة تدافع عن هؤلاء العمال سُمّيت بـ «اللادية» وكان هدفها هو الانتقام من تلك الآلات وتحطيمها لوقف عملية التحوّل في الصناعة.
وهكذا بدأ اللاديون بمهاجمة المصانع في يوركشاير ونوتنغهام في عام 1811 وتحطيم الآلات دون أن يمسّوا شيئاً أخر غيرها، وكانوا حين تهدّدهم الحكومة يختفوا في الغابات.
استمرّ عدد اللاديين في الازدياد، وهاجموا أكثر من ثلاثين مصنعاً وحطموا أكثر من أربعمائه آلة، إلا أنّ حياة هذه الحركة كانت قصيرة نسبياً، حيث أدرك العمال سريعاً من القادة العماليين أنّ الآلات لم تكن عدوهم الحقيقي بل رجال الأعمال الإستغلاليين.
بعد وعي الحركة العمالية لذاتها ولواقعها انتقلت إلى درجة أعلى.. فبدأت بتأسيس النقابات، التي كانت المقدّمة لتأسيس الحزب السياسي كأعلى أشكال التنظيم الاجتماعي الذي يمتلك إمكانيات تحديد الأهداف وصياغة استراتيجيات العمل والنضال.
لقد عانت الكثير من الحراكات الشعبية العربية رغم نبل دوافعها من هذه المعضلة ولا تزال، حيث اعتقدت أنه يكفي النزول للشارع، دون الحاجة لبرنامج أو امتلاك شروط وعي الواقع وشروط التغيير وأهدافه واستمراريته، بل إنّ بعضها ارتأى أن لا ضرورة لوجود القيادة أو الفكر أو الحزب السياسي، فبما أنّ الأحزاب مأزومة وعاجزة، فكأنّ هذا يعني تلقائياً سقوط فكرة الحزب السياسي برمّتها.. هكذا بكلّ بساطة.
كلّ ذلك أدّى إلى وقوع الحركات الاجتماعية العربية في حالة من الفوضى وجعل منها هدفاً سهلاً للاختراق مما حرفها عن أهدافها النبيلة التي انتفضت من أجلها.
على أية حال هناك مأثور يقول في كلّ شيء سيّئ هناك أمر حسن… فهل تجربة السنوات المريرة والدامية التي عانت منها الشعوب العربية منذ 8 سنوات قادرة على فرض دروسها وإعادة تفعيل العقل السياسي والثقافي العربي من أجل إعادة الإمساك بدفة الأحداث وفق مصالح الشعوب العربية..!؟
هذا السؤال برسم القوى والنخب العربية التي عليها المبادرة للخوض في استحقاقات وشروط انتشال مجتمعاتنا من البؤس والفوضى والتمزّق والخضوع والاحتلال وبناء استراتيجية علمية وواقعية نقطة ارتكازها مصالح الأمة والشعوب العربية أولاً وعاشراً…