لبنان وعود على بدء
د. رائد المصري
بهدوء… فلعلّ البلاغة والفصاحة التي يتفتق ذهن البعض عنها في لبنان ودنيا العرب حول التنافس على كسب الودّ الأميركي، كلما حاول رئيس أميركي جديد أن يهوّل ويرعد ويزبد على أعداء أميركا، وعند تحرك أية حاملة للطائرات الأميركية في المتوسط أو الخليج، تنبض معها قلوب كثيرة بأنّ الفرج قد حان ليبدأ التسبيح بحمد الله وهم في صلب رمضان، فاتحين ممرّاتهم المائية للعبور الآمن نحو الخليج مع خفقان وتسارع في دقات القلوب، بأنّ الحسم صار واقعاً لهذا العدو المقاوم الذي انتقلت عدواه في الكرامة والتضحية والصمود لتصبح أنموذجاً لم يستوعبه بعد قادة الاستبداد والسلب والسطو والغنيمة، ولا قادة المزارع والحظائر الطائفية والمذهبية في لبنان القائمين بقوة الدين واستحضار الموروث القبلي عند كلّ حادثة ونائبة.
لم تعد تسعفني الذاكرة على كثرة استحضار المشاهد وتسارع الأحداث في المنطقة وفي لبنان الذي يعيش هذه الأيام مخاضه المالي والاقتصادي في موازنة تقشفية يريد بعض المتسلّطين في الحكم الإبقاء على سياسة الاستتباع ورهن البلد لمؤسّسات الخارج بعصر النفقات وتدفيع الطبقات المعدمة ثمن فشل سياسات الحريرية المالية التي أمعَنت في نهب الأموال العامة، وعمّمت منطق الفساد أفقياً وعمودياً تطابقاً مع العولمة الأميركية التي يجسّدها ترامب بسياساته اليوم، وبما أنّ لبنان واللبنانيين شعوباً وقبائل وطوائف توجّب عليهم التركيز بما يؤمّن استمراريتهم في الحق بحياة كريمة ولائقة، طالعتنا احتجاجات المنصورية ـ عين سعادة بالاعتراض على مرور خط التوتر العالي فوق المنطقة لصدّ ومنع مشروع حكومي كامل في إنجاز ملفّ الكهرباء التي عانى من أزمتها وما زال اللبنانيون منذ ما قبل الحرب الأهلية ظلاماً وعتمة، ليصير العنوان برفع شارة الصليب من قبل بعض المحتجّين استحضاراً جديداً للدين وللطائفة للاعتراض على قضية وطنية بحدّها الأدنى وجرّ الكنيسة والبطريركية الى سجال وانقسام بين القوى السياسية لتعزيز التفرقة بين أبناء الشعب الواحد.
وحسناً كان قرار البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي المعروف بعقله الراجح وانفتاحه وقدرة استيعابه وإبقائه القضية ضمن إطارها العلمي والقانوني والدستوري.. إنها ثقافة شعب هو أراد لنفسه هذه المهانة وهذا الاستحضار للموروث الديني بحوامله كافة، فكلّ العالم يتقدّم بخطى ثابتة الى الأمام إلا في لبنان فإنّ المثقف والنخب بأغلبهم وأغلب طبقاتهم السياسية تتراجع خطوات الى الخلف في أداء أقرب الى القبيلة والحكم القروسطي…
غالباً ما كانت مسيرة بناء الدولة صعبة عند تشكلها البدائي الأول، لكن ومع مرور الوقت تطوّرت آليات النظم السياسية وكذا العلاقة بين الحاكم والشعب والدساتير الناظمة لهذه العلاقة من أجل حماية حقوق الإنسان وحفظ كرامته إنْ هو أراد وعمل وكرّس نهجاً متواصلاً في البناء، فتعززت شكوك كثيرة لدى العديد باستحالة القيام بأيّ تغيير عندما يمتلك هذا الكمّ البشري تلك النزعة الرجعية والتي تعود الى الوراء في تنظيم إطار العلاقة مع السلطة الحاكمة أياً كانت هذه السلطة. فكل الدول والشعوب تطمح في التطوير والتقدم والنمو إلا في لبنان وعند أغلب العرب فكيانية الدولة وإنجازاتها القومية طيلة عشرات السنوات في التنمية والسباق الحضاري هي في حالة تراجع دائم وهرولة مستمرة الى الخلف: في البناء الدولتي الممأسَس، وفي الخطاب السياسي وفي النظام السياسي المنحكم الى الدستور الذي تحلّل وتقدّم عليه المشروع الديني والقبلي…
صارت القناعة راسخة بأنّ المشكلة ليست فقط في الأداء السلطوي بقدر ما هي مشكلة في التفكير وأنماط التفاعل بين المجاميع البشرية بحيث يفترض علمياً في الجدل الديالكتيكي أن يتولد ما بين الشيء ونقيضه حالة متطوّرة تلتقي بنقيضها وتتفاعل وتتطوّر وكذلك حال الاجتماع السياسي، في حين أننا نرى الاستحضار المذهبي والطائفي والديني جاهزاً على الدوام وغب الطلب وهو ما يريح السلطة والمتسلطين على الحكم ويعطيهم الكثير من المزايا بالقبض على رقاب الناس.
إنها أزمة فكر ووعي مفقودين في لبنان وعند العرب: لم يتمّ التجديد لما مضى والتحديث فيهما، ولم يتمّ طرح البدائل إلا البدائل القبلية والدينية وموروثاتها التاريخية، لذلك يصعب علينا رغم الاعتراضات والاحتجاجات الدائمة والمتكرّرة تغيير المعادلات السياسية أو النظام السياسي أو الطبقة السياسية، لأنه لا وجود لنظرية سياسة تتواءم مع هذه المجتمعات التي أسقطت عليها مجاميع المتسلطين والحكام التي تأطرت زمن الإيديولوجيات وأفكارها وانتفاء البدائل، ولا يمكن تثبيت أو إعادة الحقوق والضمانات الاجتماعية لتعزيز الواقع الاقتصادي ومنع التوترات لافتقاد الجرأة في طرح البديل الاقتصادي الجاهز. وهذه معضلة عالمية بالمناسبة تتبلور على طريق الحلّ. فالناس والحكومات والرؤساء محكومون فقط لنهج اقتصادي واحد بأذرع البنك الدولي ورأسمال ليبرالي متسلط وقابض على شرايين الحياة مجبرين على التكيّف في كلّ مرة يتعرّضون لاهتزازات وقلاقل، وكله بسبب فقدان البديل السياسي والاقتصادي والرؤية التي تحمي المجتمع. من هنا تلجأ الناس ومعها النخب للتلطي بالموروثات الاجتماعية والدينية والقبلية لتحتمي بها كلما تتعرّض لنكبة أو موقف يصعب على الحاكم السياسي المتسلط حلها، ليتمّ اللجوء في إعادة التموضع الديني والطائفي والمذهبي: والأمثلة في لبنان كثيرة في هذا الشأن حيث إنّ السياسي الفاسد والناهب والسارق للمال العام، وهو المتربع على كرسي السلطة بالبعد الوطني والقومي عندما يفتضح أمره ويطلب إليه إعادة المسروق يقفز فوراً الى المقعد الديني ودار الطائفة والمذهب، لأنّ التحصين فيها أقوى وأصلب لتصير المعادلة مشوّهة ومعكوسة، فبدل أن يكون الحسّ الوطني ببعده القومي العلماني هو الأساس واللجوء الى التمذهب والتطيف حالة استثنائية، يعتبر اللبنانيون والعرب أنّ هذه الدولة الوطنية وكيانيتها القومية والعلمانية والمدنية هي ظرفية واستثناء طارئ في الوجود يجب استخدامها عند الحاجة، أما الراحة النفسية والأبدية تبقى في الموروث الديني القبلي والطائفي أو ما قبل الدولة…
إنها معضلة انتفاء الفكر والبدائل في العالم العربي ولبنان المثقل بالتخندق الطائفي والمذهبي.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية