أيار… قيمة العطاء

عبير حمدان

كان إيقاع الحياة مختلفاً في تلك اللحظة التي عانق فيها الفجر صدى الخطى المتسارعة إلى قلب الوطن… حينها بدا التاريخ منتصباً يلتمس وجوده ويبحث عن وجوه العابرين كالطيف على مشارف القرى، 19 عاماً من عمر الريح ولم تزل نسائم الصبح المنبعثة من شقوق المنازل على امتداد الطريق الذي سلكته نحو الجنوب تلفح روحي…

ورقة وقلم وعدسة ونبض مجبول بالشوق، في تلك الأيام شعرت بقيمتي المهنية فكلّ ما تكتبه الأرض يمتزج بحبر الخبر… قد آن زمن الانتصارات.

هناك أدركت كيف يلبس الشهداء بياض الغيم وكيف ينسكب القمر على وريقات الشجر وكيف نحيا برأس مرفوع ونقاوم…

في مثل هذا اليوم منذ 19 عاماً كنت أتنفس هواء الحرية والكرامة وأتكلل بالنصر الذي لا يشبه أيّ نصر آخر… في مثل هذا اليوم مشيت على أرض «الغالبون» وعبرت بوابة التحرير وتعمّدت بالغبار المنبعث من حزم خطاهم حيث عبروا ليمنحوننا المجد، كم كانت قلعة الشقيف رائعة بضجيج أبناء القرى، حينها سألت طفلة تقفز بين الدشم الإسمنتية عن إحساسها ليأتي جوابها حازماً بما فيه من براءة «أنا ما بخاف عشان المقاومة هون ورح يصير فينا نلعب متل ما بدنا» أظن أنّ هذه الطفلة اليوم أصبحت سيدة ولعلها بنت عائلتها وأثق أنها تخبر أطفالها عن عظمة اللحظة…

في مثل هذا اليوم رأيت وجه سناء عروساً تفرد بياض ردائها على طريق مرجعيون وجبل الريحان، وأحمد قصير يرقب بحر صور ويهديه ابتسامة راضية، ووصل إلى مسمعي صدى ضحكات أطفال قانا والمنصوري من عليائهم يباركون لمجد من نور ونار، مجد يتفوّق على بيانات مهترئة وقرارات أممية لم تتعدّ صفة «القلق»…

كثيرة هي الحكايا التي يرويها أهل القرى لجيل لم يشهد التحرير لكنه نال نعمة صرخته الأولى بلا قيود تحاصر النسيم وتخنق المطر… اليوم وبعد 19 عاماً أتوق الى زمن كانت الخيانة فيه جريمة لا وجهة نظر، وكانت الوقاحة غائبة ولو انها تقيم في الظلام، في زمن التحرير قدّمت المقاومة للوطن بأكمله نموذجاً مشرقاً وعفت عند المقدرة ولكن هيهات أن يفهم السفهاء قيمة العطاء…

على هذه الأرض حكايا وصور تفوق مقدرتنا على التعبير وسيل بشري كسر كلّ القيود ومضى إلى حيث تفرض الجغرافيا نفسها الى مشارف فلسطين يتنشق عبق التراب ويمنحه وعداً بأنّ النصر سيطرق أبوابها ولو بعد حين.

مُحال أن نختصر الإنجاز بحروف منمّقة فالمواقف تسمو ببلاغة الحدث الذي أسقط مقولة «الجيش الذي لا يُقهر».

اليوم وفي خضمّ القتل المتنقل والحرب الكونية على المقاومة ومن يدعمها أجد أنّ التمسك بها فعل وجود والذوْد عنها فرض يقارب العبادة…

في الذكرى الـ 19 للتحرير وجب القول إنّ النصر الذي تحقق في أيار 2000 يجب أن يُدرّس على امتداد الزمن منهجاً تربوياً واجتماعياً وثقافياً ليكون نمط حياة يؤسّس لبناء الأجيال على أرضية ثابتة لتعرف عدوّها الوحيد الذي زرعه الاستعمار في بلادنا وتواجهه على كلّ الجبهات، فالفكر واللغة والحرف والنصوص التي لم نكتبها بعد والقصائد التي نبحث عن مفرداتها والأغنية والمعرفة والوعي قوة مضافة إلى قوة الرصاص.

في الذكرى الـ 19 للتحرير أعايد عيونهم الساهرة لنغفو بسلام، وحبّذا لو يسعني تقبيل أصابعهم القابضة على الزناد وأتشرّف بالثرى العالق بأطراف أحذيتهم، أعايد كلّ مقاوم وجريح وأبارك للأرض بشهدائها… كلّ عام ومقاومتنا بألف خير ونصر مبين…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى