معادلات الأمن الإقليمي بصيغتها الأميركية… أين لبنان منها؟
د. رائد المصري
بهدوء… فلبنان على أبواب إنتاج صيغة موازنة مالية حاول البعض من السياسيين إِبعادها عن شروط البنك الدولي وأَحْكام مؤتمر سيدر المُضرَّة بصحّة الطبقات الاجتماعية الى أَبْعَد الحدود، لكنَّهم فشِلوا لأنَّ كعكَته الاقتصادية لا يُمْكن ولا يجِب أن يُفَوِّتَها نظام المحاصصة الطائفي والمذهبي كما تعوَّد اللبنانيون منذ نعومة أظَفارهم بالسِّلم الأهلي الممسوخ على استجلاب المال والمَكرُمات، وصرفها ضمن منطق التوزيع الرَّيعي على الأزْلام والمحاسيب ليذهب ما تبقَّى الى مصارف الغرب إيداعاً لليوم الأسود، ويعود تراكم العجز والفوائد من جديد بعد قلْبِ الصفحة فيدفع الفقراء والموظَّفون المحدودو الدخل من جيوبهم لوكلاء البنك الدولي ومُسيِّري أعمالهم وسماسرة سيدر وباريس 1 و2، وغيرهم من مؤتمرات الوصاية والقبض على رِقاب الناس وربْط السياسيين بِمَن توفَّر منهم في نظام الاستتباع الاقتصادي والمالي للمشاريع الرأسمالية الاستعمارية من دون معالجة حجم الديون المتراكمة وتحريك الاقتصادات الإنتاجية ومعالجة الأبنية المستأْجَرة بمبالغ ماليّة مخيفة وتقييد وضبط وزارة الاتصالات نفط لبنان والكفِّ عن مدِّ اليدِ الى جيوب الموظَّفين والعسكريين بشقَّيهم لتمويل خزانة الدولة ووقف الهدر وإعادة المال العام المنهوب مع أملاكه الى أصحاب الحقوق الأصليين… فصارت الإجراءات التقشُّفية التي اعتمدتها الحكومة مؤخراً مُبْهَمة مجهولة مصادر الدخل ومُتْقَنة التَفنُّن في سحْب المال من جيوب المواطنين على الزيادات الإضافية التي يستحقُّها الموظَّف، لكن من دون معرفة أو صياغة مشروع اقتصادي أو رؤية تُنْبِئ بمستقبل واعد، أقلَّه على المدى القصير لمواجهة التحدِّيات الإقليمية التي يسعَى الأميركي إلى صوْغ معادلات الأمن فيه حسب رغبته وبما يُريح الصهاينة في الصَّفقات الموعودة التي بدأت إرهاصاتها الاقتصادية لِلَمّ الشَّمل استعداداً للمرحلة المُقبلة من المواجهة…
تحاول الإدارة الأميركية أنْ تبدأ من صياغة مشاريع ترسيم الحدود بين لبنان والكيان الصهيوني من أجل استقرار آمن للمنطقة الاقتصاديّة التي يريد الأميركي الاستثمار فيها، وهو لهذه الغاية أرسل بشكل متكرّر موفده ساترفيلد ليضع اللَّمسات الأخيرة في محاولة لفصل المسار اللبناني عن تطورات سورية التي بقيت الى الآن من دون تنسيق أمني ولا عبر النازحين والمعابر بانتظار ما سينتج عن مبادرة الموفد الروسي لافرتينيف القائمة على معادلة التوافق بين دمشق والرياض، حيث كانت أولى تجاربها البدء بمعركة إدلب كشرط سوريّ ليُصار الى استكمال كافة بنود التوافق التي يحاول الأميركي صياغتها في إبعاد إيران قدر الإمكان والتخلُّص من مفاعيل آستانة وفصل مساراتها بين طهران وأنقرة وموسكو، بعد أن سلَّم غرفة عملياته العسكرية في شرق الفرات الى التركي، ومسايرة الرئيس بوتين الموقف الأميركي بتصريحات تبدو أقْربَ الى التحذير من استمرار التصعيد والعَبَث بالأمن النَّفطي وعبوره في منطقة الخليج.
المؤتمرات العربية والخليجية والإسلامية التي دعت إليها الرياض لتعزيز الأمن العربي المشترك والحدِّ من المخاطر والتي سيشارك لبنان فيها عبر رئيس الحكومة سعد الحريري تتويجاً وتصفية لما جرى من تطوُّرات خليجية وتصعيد أمني في ميناء الفُجيرة طال ناقلات النفط فيها، وكذلك خطوط شركة أرامكو والأثمان التي يُمكن أن تدفعها دول الخليج جراء سياسة التحشيد والاستقطاب المطلوبة ترامبياً، والموقف المُرتَقَب لرئيس حكومة لبنان من مقرَّرات هذه المؤتمرات ومدى التحضير للجوِّ السياسي لها في بيروت، لأنَّ الأمور ورسم معادلاتها في الإقليم بدأت تأخذ المنحى الجِدِّي في تحييد أطراف وتشاركية لأطراف أخرى… فهي مواقف صعبة على ما يبدو في ظلِّ التعثُّر وانعدام فُرص الحوار والتفاهم حول قضايا إقليمية.. فكيف إذا كان الانقسام جارياً لبنانياً على انتصار في 25 أيار عام 2000، وانتصار حرب تموز عام 2006؟
كذلك الدفع الأميركي في المؤتمر الاقتصادي الذي سينعقد في البحرين بحضور إسرائيلي استَبقَه ترامب بتعزيز عسكري محدود لا يُغني ولا يُسمِن من جوع إسرائيليّ للمواجهة وحصار إيران بل محاولة واضحة لتوريط أميركا في حرب تبدو فيها واشنطن بقيادة ترامب الآخذ بها الى مستوى انحداريّ عاجزة عن القيام بها، بل أقرب ما تكون لنوع من محاولة ضمان النفوذ والسيطرة بعد ظهور قوى كبرى منافسة للقوة الأميركية، من أجل فرض معادلته في الإقليم التي كانت واشنطن حتى يوم أمس تعتبرها مساحات لنشاطها الجيوبولتيكي، وتريد خوض غمارها لأنَّ من يربح هذه المواجهة الناعمة يستطيع ربْط أكبر عدد ممكن من التكتُّلات الإقليمية بمصالحه القومية تحت منظار أمن قومي مشترك عربي أو إسلامي أو غيره. وهنا شكَّلت منطقة الشرق الأوسط أحد أعْقَد هذه الأقاليم وأكثرها التهاباً وتداخلاً لأهمية موقعها وخاصيتها الجيوسياسية، ولناحية الإشراف على أهمّ طرق الملاحة البحرية والمضائق والثروات الطبيعية والتنوّع البيئي والاجتماعي والسياسي. هنا يدرك الأميركي بأنَّ من يَفْرض معادلته الأمنية يربح المنطقة كلَّ المنطقة لصالحه، ويرتكز بها للوصول إلى أماكن أخرى في مسْعَى للتوسُّع بأسلوب غير مجرَّب ولم تتعوَّد أميركا عليه بعد في منطق السياسات الدولية والعلاقات بينها.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية