الأدب الوجيز: هويّة أدبيّة مفتوحة
د. باسل بديع الزين
يعقد ملتقى الأدب الوجيز مؤتمره التأسيسيّ الثّاني في بيروت في شهر حزيران المقبل بمشاركة ثماني دول عربيّة وبحضور كوكبة من الأكاديمييّن الجامعيّين والشعراء والأدباء. والجدير بالذّكر، أنّ أعمال المؤتمر ستقتصر على البُعد التنظيريّ أي من دون تخصيص أمسيات شعريّة أو جلسات لقراءة قصص قصيرة جدًّا، وذلك بخلاف ما حصل في المؤتمر التأسيسي الأوّل في تونس. فلِم آثر المنظِّمون حصر أعمال المؤتمر بالبعد التنظيريّ؟ وهل ثمّة تساوق بين النّقد والعمل؟ أم أنّهما يُشكّلان مجالين منفصلين لا يجوز أن يضطلع بهما شخص بعينه؟
حقيقة الأمر، إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي توضيح جملة أمور أبرزها:
1 الأدب الوجيز حركة نقديّة تجاوزيّة
لم ينطلق مؤسِّس الأدب الوجيز، في طرحه هذا النوع الأدبي الجديد، من تصوّر يوتوبيّ حالِم أو من لحظة انفعاليّة طارئة ومجانيّة، بل انطلق من جملة مسوّغات نظريّة وفكريّة وتأمليّة وفلسفيّة ونقديّة بمعيّة مجموعة من المنهمّين بالعمل الثّقافيّ. وبتعبير أوضح، يجد الأدب الوجيز جذوره في الأساطير والملاحم الأولى، وبالتّالي فهو امتداد لقول أدبيّ قديم راح يتطوّر عبر العصور من دون أن يتّخذ صفة الاستقلاليّة أو أن يُكرّس نفسه نوعًا أدبيًا جديدًا بالتمام. وعليه، جاء ملتقى الأدب الوجيز ليضع الأسس النظرية والقوالب التفكرية لشتات أدبي تبعثر قرونًا طويلة وآن له أن يتعصرن وأن يتّخذ الحيّز الذي يستحقه وأن يتفرّد كنوع أدبي مستقل. والجدير بالذكر ها هنا أنّ الخطاب التنظيريّ لم يكن مفصولًا في حركيّة الأدب الوجيز عن الأمثلة النصيّة التي ولدت من رحم التنظير الفكري العميق والعكس بالعكس، وذلكم ما يحتاج إلى إيضاح بيّن.
2 من التنظير إلى التطبيق
لعلّ أبرز الانتقادات التي وجّهت إلى ملتقى الأدب الوجيز في معرض تنظيمه حلقات دورية ذات طابع نقدي صرف هو النقد الآتي: «كيف تسوّغون نظريًا ما تكتبونه بصورة لاحقة، في حين أنّ منطق النقد يفترض تأسيس النقد وتكريس المفاهيم التنظيريّة بصورة لاحقة للكتابة؟».
حقيقة الأمر، أنّ الأدب الوجيز بعامة، وشعر الومضة بخاصة، وكما أسلفنا أعلاه، يملك جذورًا تاريخيّة واضحة، ناهيك عن كمية نصوص حديثة لا تُعدّ ولا تُحصى، يُصنّفها أصحابها في خانة الوَجز. الأمر الذي يجعل الترسيمة المفهوميّة المنشودة تنطلق من معطيات قائمة ومكرّسة على عللها ومواطن خللها وشطط تسمياتها. وعلى المقلب الآخر، أسمح لنفسي أن أطرح السؤال الآتي: «أيّ ضير في أن يتلازم الشاعر مع الناقد في شخصيّة بعينها؟». وبتعبير أوضح، إنّ الشاعر أو الكاتب الذي يتجانس في ما ينتجه نصيًّا مع مبادئه التنظيريّة التي اختطها لنوع أدبي بعينه هو مدعاة فخر وليس مدعاة شك وتساؤل، بمعنى أنّ الأس المفهومي حاضر في كل ما ينتجه، فلا يقع فريسة تناقض ولا يغرق في شطط بيّن، بل يجده منساقًا على الدوام وبحكم الضرورة النفسيّة الواعية والمحتكمة إلى جملة اعتبارات نقديّة عميقة، يجده منساقًا نحو تحقيق التجانس بين المبادئ الفكرية التي يدعو إليها والنص الشعري أو القصصي الذي ينتجه. وعند هذا الحد تبرز إشكالية النسق المفتوح في الأدب الوجيز.
3 الأدب الوجيز والنسق المفتوح
لم يدّع الأدب الوجيز يومًا أنّه أغلق النسق النقدي، لذا ترى أعضاءه يجهدون دومًا في خلخلة بعض المفاهيم الثابتة لديهم، يفتضون بكارة البداهة، ويلجون أبواب السؤال بمندرجاته كافة. وأسوّغ لنفسي أن أشير، في هذا السياق، إلى أنّ جميع جلسات ملتقى الأدب الوجيز تنطوي على حوار جاد وعميق بين أعضائه بحيث يجري استعراض المفاهيم الفكرية التي يحملها كل عضو من أعضائه، ومناقشتها وتفنيدها وتمحيصها. بيد أنّ الطرافة تكمن في كون النص الشعريّ أو القصصي نفسه لا يحتكر شكلًا نهائيًا ولا يدّعي تكريسًا مطلقًا، فلطالما جاهر رئيس الملتقى قائلًا: «ما زلنا في مرحلة التجريب… يبدو أنّ الشكل المطروح اليوم هو الأكثر ملاءمة لكن من يدري أي شكل سيتخذه النص الشعري أو القصصي في مقبل السنوات؟».
هذا التجانس الفكري بين المنطلقات النظرية والشواهد النصيّة بدأ يستقطب أنظار مجموعة كبيرة من المعنيين مباشرة بالشؤون الأدبية، فراحوا يتقصون معنا سبل التفكر في تشييد صرح معرفي كبير يُراعي الضرورة التي حتمت هذا النوع من التعبير بعد أن بات هناك قسم كبير من الأساتذة الجامعيين والشعراء مقتنعين تمامًا بالأفق الغني والواسع الذي اختطّه الأدب الوجيز، وذلكم ما يُفسّر بدوره مشاركة نقاد وشعراء وروائيّين من الأردن وفلسطين وسوريا وتونس والمغرب والجزائر ولبنان في المؤتمر المزمع عقده في شهر حزيران المقبل.
مما تقدّم، تبدو الإجابة يسيرة وواضحة عن السؤال المركزي الذي طرحناه في بداية هذه المقالة: لِم آثر المنظِّمون حصر أعمال المؤتمر بالبعد التنظيريّ؟
وبشيء من التفصيل، لقد أثبت الأدب الوجيز حيويّته وفعاليّته وحتميّته وضرورته، لكن وفق أي مقومات، وأي مندرجات، وأي تأصيل؟ تلكم هي الأسئلة التي سيحاول المشاركون في المؤتمر الإجابة عنها.
الأدب الوجيز بات حاجة وجوديّة، لكنّ هذه الحاجة لا يجب أن تترك على غاربها وإلا وقعنا في فخ ما ننتقده. وبتعبير أوضح، نحن بحاجة إلى نصوص يعتمل فيها الوجدان بقدر ما يعمل فيها الفكر، نصوص تكرّس ذهنيات مختلفة فلا تعيد إنتاج ما قيل بقوالب لفظية كثيفة لا تتوفر فيها شروط كتابة الومضة أو القصة القصيرة جدًا. الأدب الوجيز هويّة أدبيّة جديدة بامتياز، ولكي تفصح عن نفسها لا يكفي أن تقدّم نفسها نصيًا بحيث تلتبس صورة العمل الفني في ذهن المتلقي. وهنا بالضبط تكمن مسؤولية القارئ في تذوق عمل فني يعي أبعاده ويقف على مندرجاته، من دون أن يكتفي بالتطبيل والتزمير والتطريب والمنبريّة والسذاجة المعرفيّة.
الأدب تجاوز مستمر، والأدب الوجيز يسعى بكل ما يمتلكه من خبرات بشريّة إلى تجاوز نفسه باستمرار في سياق عملية فكريّة بنيويّة مصقولة جدية ورصينة تكاد تكون التجربة الأولى من نوعها في العالم العربيّ.
عضو ملتقى الأدب الوجيز