حريـق الســاعـة الأخيرة… من وقـع بالـفخ؟
محمد ح. الحاج
من المبكر القول إنّ معركة تحرير إدلب هي آخر الحريق رغم أنها بكلّ الموازين من أشرس وأقوى المعارك لأكثر من سبب، أولها التجمع الكبير للعصابات الرافضة لأية تسوية أو مصالحة ومنهم الغرباء الذين جاؤوا حاملين حلم إقامة كيان خاص بهم وعلى أرض ثرية ومقدّسة، ولم يخطر ببال هؤلاء أنه مجرد حلم غير قابل للتحقيق وأنهم خدعوا تماماً، ولم يعد أمامهم من خيار آخر… القتال حتى النهاية.
السبب الثاني هو استمرار الرهان على المشروع من قبل دول المؤامرة الأساس، وأقصد الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني حيث يجمعهما وحدة الهدف والمصالح، وتركيا الذي يشكل دافعها خطاً موازياً ومختلفاً مع الصهيوني، لكنهما يتقاطعان في أكثر من مفترق يجمعهما العداء للنظام السوري وقيادته غير المتجاوبة مع أيّ من مطالب الأطراف على اختلافها، وإصرار هذه القيادة على استقلالية قرارها والحفاظ على سيادتها وكرامة شعبها الرافض الاستسلام تحت شعار زائف للسلام.
السبب الثالث والمهمّ هو الوصول الى قناعة حتمية بالهزيمة النهائية، ونعلم أنّ المقامر عندما يبلغ مرحلة الخسارة الفعلية يراهن بكلّ رصيده، أو يستخدم ورقة الجوكر، الإدارة الأميركية وصلت إلى نهاية الشوط عن يقين بعد تأكيد الخبراء المشرفين على مراحل العمليات، وهذا فرض عليها العودة إلى التماهي مع موقف التركي الحليف على المكشوف، بعد أن لعبا دور المختلفين على مسرح المنطقة، وبدأت عملية دعم شامل للعصابات مع أنها تعلم أنّ جبهة النصرة هي المسيطرة وهي المصنّفة عالميا إرهابية، بدلاً من حصارها ومنع حصولها على السلاح، الدارة الأميركية وتركيا كلتاهما تقدّمان السلاح ومنه الأحدث بشكل سافر، مع مشاركة فعلية للقوات التركية في عمليات الدعم الناري وتمرير المعدات والذخائر، والمساهمة في غرفة العمليات والاستطلاع، والتشويش وغير ذلك مما يرفع المعنويات المنهارة ويطيل المعركة، ويلحق المزيد من الخسائر في أوساط من بقي من مدنيين وأيضاً البنية التحتية في منطقة العمليات.
أين وما هي الحقيقة؟
تكثر الأحاديث وأغلبها تكهّنات عن اتفاقات سرية بين الروس والأتراك، وبعضهم يشكك بقوله إنها تعود إلى ما قبل الدخول الروسي المباشر على خط الأزمة السورية، ويدلل على ذلك بالصمت الروسي على دخول القوات العسكرية التركية إلى الأراضي السورية بالحجم المخالف لقوات مراقبة فقط، ويربط ذلك أيضاً بالصمت على العدوان الصهيوني المتكرّر على نقاط الجيش السوري ويتشعّب التشكيك إلى مدى أبعد من ذلك بكثير ولا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار الخلفيات السياسية والدوافع لمثل هذه التحليلات وأغلبها لا يتصف بالبراءة والمصداقية، كما أنه لا يملك رؤية حقيقية للصبر الاستراتيجي الروسي والمصالح التي تحكم سلوكه.
عندما بدأ الجيش السوري عمليته لوضع حدّ لخروقات الإرهابيين ووقف اعتداءاتهم على المدنيين في الكثير من المدن والبلدات والمواقع المحيطة بهم، وبعد المماطلة التركية والفشل في وقف ذلك بأجلى صوره، تكشف إلى العلن موقف تركي مشارك في المعركة مع دعم ناري ولوجستي، ونتيجة ذلك سقط عدد من الجنود الأتراك قتلى وجرحى دفع بالقيادة التركية إلى طلب هدنة متوسلة الجانب الروسي، فكانت الموافقة السورية لأسباب إنسانية ولمدة 72 ساعة مشروطة باتجاه القوافل شمالاً باتجاه الخروج وليس العكس، ولم تصمد الهدنة فقد خرقتها العصابات، ولاحظت الرقابة الجوية أرتالاً من الآليات والعناصر من الحدود باتجاه خط المواجهة وعلى أكثر من محور بدءاً من عفرين وباب الهوا واستدعى قيام الطيران بتدمير أغلب الأرتال وما تردّد عن توجيه إنذار روسي للحكومة التركية وإمهالها سحب قواتها خلال أربع وعشرين ساعة وبعد ذلك لا تضمن سلامة أيّ منهم ليصبحوا أهدافاً مشروعة لغارات الطيران، فأين هي الحقيقة ومن يستطيع ترجمة المواقف الروسية، وأيضاً التركية إن كان هناك اتفاقات سرية..؟
المصالح الروسية لا تتطابق بالضرورة والمصالح السورية بكلّ تفاصيلها، روسيا ليست ملزمة بعداء تركيا أو الكيان الصهيوني، وليعلم الجميع أنّ من مصلحة روسيا إبعاد تركيا عن الولايات المتحدة وحلف الناتو، فهي تشكل رأس حربة الحلف بمواجهتها، من هذا المنطلق قد تقدّم لها منظومة الدفاع الجوي أس 400 بنصف ثمنها وتحرص على استمالتها ضمن حدود معينة، وهذا لا يعني أن تطمع تركيا فتمارس شططاً دون رادع، وأما ما يقال عن ضوء أخضر أو صمت روسي على قصف مواقع إيرانية فهو توصيف مغرض وله غاية، العدو الصهيوني ما عاد يجرؤ على اختراق الأجواء السورية كما تفرض قواعد الاشتباك بعد إسقاط طائرته، وهو يمارس القصف من المياه الدولية أو من الأجواء اللبنانية ما يعطي الفرصة للدفاعات الجوية للتصدّي وإفشال الهجوم، ولا يخفى أنّ الروسي يعلم أين ومدى الوجود الايراني المحدود، وأنّ هذا الوجود لم يتعرّض لخسائر تذكر، ولا يمكن اعتبار أيّ موقف روسي في هذا السياق غير طبيعي أو صامت أو فرح للعمليات الصهيونية، السياسة الروسية هي الأكثر قدرة على ضبط النفس واحترام القانون الدولي، ويبقى كلّ سلوك وله مقابل في الآتي من الأيام.
أن يكون الحريق الحالي في إدلب هو معركة الساعة الأخيرة، فإنّ هناك من سقط في فخ النار، ويمكن القول إنّ تركيا أول الساقطين نتيجة أطماعها التاريخية واعتقاد قيادتها بسهولة تكرار عمليات ضمّ لواء الاسكندرون، أحلام اليقظة التي يعيشها أردوغان بعد أن استبدل صورة أتاتورك بصورة السلطان الفاتح دفعته لامتطاء الوهم وهو الذي لا يتقن ركوب حمار، سقوطه هذه المرة قد يكسر عنقه تماماً، لكنه يجرّ معه الكثير ممّن يحملون اسم سوريين يتساقطون بالمئات ذئاباً محطمة الأعناق، غرباناً مكسّرة الأجنحة ومعهم الكثير من الأبرياء شاركوهم حلم دولة أو كيان مستقلّ موهوم على أرض مقدّسة، مليئة بالخيرات، أغلبهم جاء من بلاد بعيدة ومعه أسرة وأطفال سهّلت لهم السلطات التركية عبوراً غير مشروع بعد سيطرتها المباشرة أو بواسطة أدواتها على المعابر الرسمية، وأضافت لها معابر كثيرة أخرى مخالفة بذلك القوانين الدولية ضاربة عرض الحائط بعلاقات حسن الجوار.
تقترب نهاية الشوط وقد تحققت الإدارة الأميركية من حتمية الهزيمة، هكذا تتخلى عن تركيا وغيرها من الأدوات، تجمع جنودها وتغادر إلى أقرب قاعدة آمنة، عندها يتأكد الكرد من عجزهم عن المواجهة، ينسحب قادتهم العملاء أيضاً، ويبقى أنّ على الباقين إلقاء السلاح والتعامل مع رموز الدولة الوطنية بعد تطبيق الإصلاحات التي أقرّتها الحكومة ومجلس الشعب فلا يكون حريق ولا خراب، ولا مزيد من الدماء، فالدولة ونحن معها الأكثر حرصاً على دماء الكرد لأنها دماء سورية لمكوّن سوري أصيل.
كنا نتمنى أن لا يقع الحريق، وأن لا يحلّ الخراب بإدلب الخضراء فلا يحترق زيتونها، لكن النوايا المبيّتة السيئة والتفكير الأشوه مدفوعاً بالعمالة والمال الحرام خيّب آمال الجميع وأغلبهم الأبرياء… سوريانا تنتصر والعدو يندحر.