«باب الحارة»… العائد إلى حضن الوطن الشاسع!

طلال مرتضى

ثمة جردة حساب فنية من العبث عدم الوقوف عند محصلتها لاستخلاص بعض العبر ليس إلا. ومما لا شك فيه أن شهر رمضان وبعيداً عن حكاية أنه شهر العبادة، صار من المُسلّم به شهراً للسباق الماراثوني للدراما السورية والعربية والتي تتبارى مع بعضها البعض ضمن محورها القطري الضيق أو مع مثيلها العربي لحصد أكبر كم من الحضور والمشاهدات وليس الحسنات التي يُجزى صاحبها بعشرة أمثالها!

وكي لا يتبدد مقالي في مقدمة سفسطائية مبهمة لا بد الوقوف هنا، والكفّ عن تداول لغة المجاز على حساب رصد الواقع الفنّي بما ما له وما عليه..

بداية لا بد من الوقوف على حقيقة جلية لا غبار يغطي حضورها وهي المرتبة التي تربّعت عليها الدراما السورية في فترة ما قبل الحرب الكونية على سورية، خصوصاً بعد أن فقدت الدراما المصرية زهو رهجتها..

في هذا المقال قررت فتح «باب الحارة» على مصاريعه وقبل أن يستقيم لهج الكلام لا بد من التعريج بالحقيقة التي يعرفها الجميع والتي تدلي بأن مسلسل «باب الحارة» قد لحق بركب طاحونة الحرب على البلاد، فيما عدا أول جزء منه أو الذي يليه وهذا من باب عدم التعميم. سيقول البعض ما من دليل ملموس على ما أقول لكونه لم يقل رأياً صريحاً حول هذا، لكن السؤال يقول: كم من المغالطات التي طالت الشام والبيئة الشامية، دسّاً وتشويهاً قد تم تمريرها خدمة لإرضاء المموّل الذي يعرف الجميع ومن أين يبذخ بهذا الكم من الملايين وما المراد منها؟!

بعيداً عن الأفكار المتعطّنة لدى البعض وفي رأس بعض الجهلة الذين سعوا ويسعون وراء تبرير خراب البلاد وحصر هذه الحرب في زاوية ضيقة عبر وسائل إعلام عالمية نافذة لتبدو الحرب حرباً من أجل كرسي الرئاسة وليست تشويهاً وطمساً للهوية العربية السورية، ثقافةً وتاريخاً. هذا من ناحية وأما من ناحية أخرى بعد أن بدأت من جديد مياه الدراما السورية الراكدة بالتحرّك والعودة إلى مقام المنافسة بعد أن بدأت طاحونة الحرب بالانحسار ولو بقدر محسوب بدرجة مقبول.

من المسلّمات وفي ما سأتناول هذا العام متوالية «باب الحارة» في جزئها الأخير وسوف أبدأ من حيث توقفت شارته بعد الحلقة الرابعة والثلاثين، بعد ما شهدت أجزاء المسلسل سقوطاً مدويّاً بعد أن تربّع لأجزاء عدة على سدرة الحضور مع سقوط قناع الحرب وبعدما أفلس الداعمون مع فشل المؤامرة ليتوارى تباعاً رموز المسلسل والذين نجموا أيضاً لا بحضورهم الضبابي بل لأن فضل الشاشة السورية قد أغرقهم بالتمجيد والتهليل سابقاً..

وبعيداً عن حكاية إن كانوا أصحاب رأي «موالٍ» أو «معارض»، فالمعارضة أو المولاة مبدأ وحالة صحية بأي مجتمع وتجسيد للاختلاف الواعي. وهنا يحضرني السؤال، بما أن ما نحن به من حال هو مبدأ، لماذا غاب النجوم عن الجزء الأخير مع غياب ماكينة المال الصحراوي، أليس أصحاب المبادئ لا يتغيّرون؟!

في ما أقول من رأي حول المسلسل هو رأي يمثلني بالتأكيد، أقولها من الجميل إن «باب الحارة» بجزئه الأخير، قد عاد إلى حضن الوطن بعد غياب سنوات، ولا ضير في قصة الرجوع عن الخطأ هذه، من باب أنها فضيلة.

وبما أن حضن الوطن اتسع سابقاً ويتسع الآن أكثر، لمن حمل السلاح وأطلق وقتل ودمّر، وتمّ طَي صفحته، فـ «باب الحارة» على الرغم من الأذى الثقافي، عدا عن التشويهات البصرية التي تسبّب بها، فإن عودته تائباً إلى حضن الوطن تغفر له ما تقدّم وما تأخر، ولعلّها وكما أراها قد تكون توبة نصوحاً على يد المال السوري الممثل بشركة «قبنض».

والمفارقة هنا للتبيان ليس إلا، أقول إن المسلسل ذهب في هذا الجزء إلى حال توثيقي تم الاشتغال عليه درامياً، وفيما لو عدنا إلى الوراء قليلاً لتلمسنا إننا بحضرة المسلسل السوري السابق «أخوة التراب»، الذي قاد دفّة بطولته الفنان السوري أيمن زيدان مع ثلة من نجومنا والذي جسّد حقبة المستعمر التركي أو ما يُسمّى العصملي في ذلك الوقت، و»باب الحارة» في هذا الجزء حاول الركوب على سكّة قطار «أخوة التراب» ليُكمل مشوار التوثيق هذا والذي نوّه كانطلاقة أو نواة أولى – في حلقاته – لتنامي ونهضة الحركات الوطنية.

وعوداً على بدء في ما يخصّ المفارقة مع مسلسلات أخرى تم تقديمها على الشاشة السورية ولاقت دعماً من قبل الدولة وكثيراً ما دخلت كاميراتهم إلى المؤسسة العسكرية لتصوير مشاهد تقارب الحقيقية، وفيما بعد نتلمّس أن تلك المسلسلات تدسّ سماً زعافاً بين حلقاتها كما حصل الكثير من اللغط في هذا الموسم، ليخرج بعض الممثلين في ما بعد إلى الجمهور السوري معتذرين، بعد أن انكشفت النيات أو سقطت الأقنعة عن الترميزات أو الإشارات التي رميت عمداً، كتصريح سامر رضوان في مقابلة مع محطة تلفزيونية لبنانية والذي أحرج عدداً من الفنانين الذي ذهبوا للبحث عن منابر تبث اعتذارهم للجمهور وللدولة من باب أنهم وقعوا في فخ الخداع. والسؤال هنا، أين هي ثقافة الفنان وهل من المعقول أنهم لم يقرؤوا أدوارهم ليقبضوا عما هو مسيء لهم وللبلد، نقطة نظام؟!

أنا أعلم أن ثمة فنانين سوريين لم يقفوا أمام الكاميرا طيلة قيامة تلك الحرب اللعينة، وليس لديهم مداخيل للمعيشة غير عملهم الفني. وهذا حقهم في العمل لأجل عائلاتهم، لكن أليس جزاء الصيام أهون ألف مرة من حكاية الخروج إلى الجمهور لتقديم الاعتذار عما ورد في سياق العمل، الذي أكل وشرب من كتف البلد وعندما خرج للضوء أترع ما بجوفه من قاذورات بوجه الوطن، ولا أدري إن كانوا يعدونه وطناً أم «ملطشة للرايح والجاي».

فنياً، أقول، كان معمار حلقات المسلسل متهادياً ومنسجماً مع ذاته وشخوصه، حاول البقاء داخل عباءة الأجزاء السابقة من حيث خلق «كركترات» خاصة تميّزه، لكنه وبصراحة لم يكن موفقاً هذه المرة بالمقارنة مع الأجزاء السابقة بالمقارنةـ ومن باب التبيان ـ بين شخصية العقيد «معتز» ابن «أبو عصام» وبين العقيد «راتب» وبين «كركتر» شخصية «أبو بدر» و»الكركتر» الحالي «أبو نحلة بيّاع الفلافل» من حيث خوفه من زوجته أو من قبضايات الحارة بالمقارنة مع أبو بدر بصراحة يكون الفارق شاسعاً جداً -هذا بعيداً عن تركيبة «كركتر النمس» – وبين «الداسوس صطيف» قبل أن يكون المسلسل باباً للحارة وبين جاسوس الفرنساوي في هذا الجزء مصلح «البسكليتات».

بالتأكيد ما من عمل فني كامل، لقد مرّت عبر الحلقات مغالطات كثيرة وهفوات تجعل المشاهد يضحك وينقلب على ظهرها، كما حصل مع أم «زكي الداية» حين طلب منها «المجلخاتي» غسل ثيابه، قالت له: «بعد يومين ليخلصوا، اليوم أغسلهم وبكرا أكويهم». بعيداً عن حكاية الكهرباء التي دخلت كضيفة كريمة على هذا الجزء وفي تلك الحقبة أقول، لو كانت الملابس المكويّة للمختار أو لأبو نبيل لكان الأمر قد مرّ بسلام، ومن المغالطات الفادحة وأرجئ هذا إلى خبير اللهجات في المسلسل حول بناء الشخصية التي جسّدها «قاسم ملحو» الفنان القدير كرئيس للمخفر، فالعارف باللهجات السورية يلقي القبض على التفاوت الفاضح بلهجة رئيس المخفر التي ضاعت بين اللهجة السورية الشرقية «الجزيرة» وبين البدوية. وهناك فارق بينهما.

فقد استعمل ملحو مفردات بدويّة و شاويّة في الجملة الواحدة وهذا يُعدّ عيباً تقنياً، لو قارناه مع «كركترات» لمسلسلات أخرى، مثل النجم السوري محمد قداحي بدور فياض «بالخربة» أو المرحوم نضال سيجري والقدير باسم ياخور في «ضيعة ضايعة» لقبضنا على عيب تركيبات الكلام وعلى الرغم من كل هذا فقد جاء حضور الفنان ملحو في اللحظة الأخيرة كورقة حظ رابحة والتي أعطت المسلسل علامة حضور إضافية مع العلم أن دوره كرئيس مخفر كان سيكون أجمل لو ابتعد عن السخرية التي أتت بغير مكانها..

وأما بالنسبة للديكور ومع بعض الاجتهادات بقي هو الوحيد الذي أمسك بهويّته الشامية، لهذا لم نرى فروقاً كبيرة بين ديكورات الجزء الأخير والذي موّلته شركة سورية وبين الديكورات التي بذخ عليها كثيراً في السابق ولعل الجزء الأخير كان الأسكن من الناحية البصرية.

فيما يحسب لهم هذه المرة وبجدارة، نهاية المسلسل والتي ترُكت مفتوحة كما الروايات الأدبية الرائجة، وهذه خطوة مقبولة لأمر مهم ومفيد إذ ما كان لديهم من عزم في السنوات القادمة لتقديم أجزاء أخرى…

النهاية المفتوحة تركت الكثير من التأويلات برسم المتلقي من ناحية ومن ناحية تالية تركت الباب مفتوحاً لإكمال الطريق من حيث توقف المسلسل، هذا وقد نتابع في المرة المقبلة حكاية جلاء الفرنسي من البلاد الذي بشروا به في الحلقات الأخيرة وقد نذهب إلى تدوينات أخرى وصولاً إلى حرب البلاد أو ما بعد.

كاتب عربي/ فيينا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى