صنّاع الاستقلال… هم المقاومون الشرفاء
د. سلوى الخليل الأمين
حين جاهدت القيادات السياسية اللبنانية إبان العهد العثماني التركي وبعدها زمن الانتداب الفرنسي من أجل حرية لبنان واستقلاله، كان الهمّ الأكبر إنشاء دولة مستقلة ذات سيادة وطنية تنعم بالاستقلال الناجز عن تركيا الباغية وعن فرنسا الدولة الاستعمارية، لهذا كافح رجالات لبنان استبداد الدولتين المذكورتين فتصدّوا أولاً عبر مقاوميهم للحكم الاستبدادي التركي، وثانياً عبر رجالات الدولة والشعب مجتمعين للمستعمرين الفرنسيين حيث تمت معاقبة رجال الاستقلال بالسجن في قلعة راشيا وفي بشامون، ومنهم من أعدم ومن قتل زمن العهد العثماني، ومع هذا لم يهدأوا ولم يستكينوا عن المطالبة بحرية لبنان وسيادته واستقلاله.
يومها لم تكن المقاومة إرهابية بل كانت عنوان البطولة الحقة، ومن لا يؤيدها يُتهم بالعمالة للمستعمر المنبوذ من معظم أبناء الشعب اللبناني، ويتمّ وضع اسمه على اللوائح اللاوطنية السوداء. هكذا كان التوافق الوطني مشتركاً بين جميع اللبنانيين، الذين كان لهم الهدف نفسه، ألا وهو نيل الاستقلال وطرد المستعمر من ربوع الوطن.
أما اليوم، ونحن نمرّ في ذكرى الاستقلال المؤرّخ في 22 تشرين الثاني من كل عام، نجد الوضع مختلفاً تماماً، فالاستقلال يأتي باهتاً لا روح فيه، والاحتفالات الرسمية ملغاة بسبب عدم وجود رئيس للجمهورية، ناهيك عن خلاف المسؤولين حول هذا الأمر الدستوري الوطني المهمّ، وانتظارهم الضوء الأخضر من الخارج، هذا الضوء الذي يذكرنا دائماً بما مضى من ظلم وقهر واستعباد وديكتاتورية استعمارية، ويأخذنا إلى بيانات بعض السياسيين التي تتهم المقاومة ومؤيديها ومحازبيها بالإرهاب، وهنا يرتسم السؤال، حين تعود بنا الذكراة إلى ما كتبه التاريخ عن نضالات اللبنانيين ومقاومتهم عبر العصور الماضية، حين كانت المقاومة شرفاً وتضحية وبسالة وكرامة ووطنية صافية مصفاة، والسؤال هو: لماذا يتهم كلّ من يقاوم «إسرائيل» بأنه إرهابي، ويتم العمل من الداخل كما من الخارج على إدراج حزب المقاومة في لبنان، أعني حزب الله، على لائحة الإرهاب؟ فهل من يقاوم العدو الصهيوني يكون إرهابياً، وهل «إسرائيل» المغتصبة لحق الشعب الفلسطيني بالعيش على أرضه بسلام وأمان وحرية ليست إرهابية؟ وكيف يكون الدفاع عن فلسطين العربية ومهد السيد المسيح، ومدينة القدس المقدسة إرهاباً، فيما انتهاك الجامع الأقصى لا يعتبر إرهاباً في قاموس البعض من الأعاريب المتزلفين لأميركا والصهيونية العالمية ومن خلفها «إسرائيل»؟ ولماذا لا ترفع بيانات الاعتراض على شراسة وعدوانية العدو «الإسرائيلي» الذي يقتل ويدمّر ويجتاح المدن والقرى على امتداد الحدود العربية من سيناء إلى الجولان حتى لبنان وغزة، ولا تتمّ المطالبة بإصدار بيان عالمي من مجلس الأمن يتهم الدولة العبرية بالإرهاب؟ لقد انقلبت المفاهيم النضالية العربية، وانقلب معها الشعور الوطني، واندثرت الحرية والسيادة، وأصبح الاستقلال حبراً على ورق، في الوقت الذي نحتاج فيه أكثر لأن نتمسك بقوميتنا وعروبتنا ومحاربة «إسرائيل» وكلّ معتد غاشم على منطقتنا التي ابتليت بالدواعش المدعومين من دول الخليج وعلى رأسهم السعودية وقطر وتركيا، بغض النظر عن الهدف الاستعماري الجديد المرسوم للمنطقة، والذي ينفذ حالياً بالمال العربي والعقل العربي الضال.
ترى لو قرأنا التاريخ جيداً ألا نجد أنّ الدروس العظمى المستقاة من صحائفه المدوّنة هدفها الجهاد والنضال ومقاومة كلّ مستعمر غاز مهما كان جبروته وطاغوته وقوته العسكرية، أليس تحرير فلسطين والقضاء على كلّ مستعمر غاصب، وعلى كلّ إرهابي استباح الأرض والعرض والشرف والكرامة بتمويل وتسليح من الأشقاء العرب، وبتخطيط موجه ومفبرك من الصهيونية العالمية، وأميركا رأس الشرّ الأسود والديكتاتورية البغيضة، من الأولويات الوطنية التي يجب أن تتكاتف السواعد من أجل إنجازها؟
لقد سها عن بال الجميع ونحن نستقبل ذكرى يوم الاستقلال أنّ لبنان لتاريخه لم يحسن الحفاظ على الاستقلال وعلى وطنية أبنائه الذين تمذهبوا وتطيّفوا ورموا الشعور الوطني على أبواب زعماء الطوائف، الذين لا همّ لهم سوى تكريس زعاماتهم وشروطهم المهلكة، والمدمّرة لوطن اسمه لبنان. الدليل ما نحن عليه من تدهور في كلّ مرافق الحياة العامة والخاصة، فمن الناحية العامة باتت الدولة مزرعة قبلية وعشائرية يتناتشها المسؤولون الذين تربّعوا على الكراسي غير مبالين بهموم الناس وإرباكاتهم المتواترة والمؤلمة وبفساد غذائهم، بحيث كلّ ما هو في الدولة يعتبر من أملاكهم الخاصة…
هذا اللبنان الذي حملنا هويته فخورين به وطناً للإشعاع والنور والفكر والأدب والنضال القومي الحقيقي بات اليوم جزءاً من تاريخ مضى، حيث أنه لم يبق الوطن المستقلّ المحفور في مجرى الحياة وطناً لكلّ أبنائه، دون تمييز أو تفرقة كما ورد في نص الدستور الذي بات أيضاً حبرا على ورق. نعم لقد جاهد الأجداد من أجل استقلال لبنان وسيادته وحريته، لكنهم باؤوا بالفشل حين لم يحسنوا وضع الأسس الصحيحة التي تجعل الحكم استمرارية وليس مزرعة للطوائف والعشائر والمذاهب، وهنا الطامة الكبرى التي تجعل اليوم ذكرى الاستقلال باهتة الألوان، خصوصاً وكرسي الرئاسة الأولى في الوطن فارغة، ولتاريخه لم يتفق بيت «بو سياسة» على من سيملأ هذا الفراغ، حتى لو وجد المستحق برأي أغلبية المواطنين والذي يترأس أكبر كتلة نيابية مسيحية ويحظى بأكبر تأييد وطني، والسبب أّ المراهنين على انهزام سورية والمقاومة التي حرّرت الوطن من رجس «إسرائيل» يسعون جاهدين كي يتمّ إدراج حزب المقاومة في لبنان حزباً إرهابياً في مجلس الأمن الدولي، وسها عن بالهم أنّ من أنجز الاستقلال هم مقاومون لبنانيون وأنّ المقاومة هي الدرس الوطني الكبير الذي ورثناه عن الأجداد، وما زلنا متمسكين به من أجل الحفاظ على الوطن السيد الحر والمستقل.
تبقى يا لبنان درة هذا الشرق العربي، ما دام فيك مواطنون مقاومون أوفياء يعلمون علم اليقين أنه ما مات حق وراءه مطالب، وأنّ صناع الاستقلال الحقيقي هم المقاومون الشرفاء الذين يبذلون الأرواح الغالية في ساحات الجهاد من أجل تحرير الوطن من رجس المراهنين على «إسرائيل» وقوى الاستكبار العالمي والطائفية والمذهبية، واستقلالك يكون في العودة إلى حضن الدولة المدنية العلمانية التي تؤمن بأنّ الدين لله والوطن للجميع.