«البراغماتية» الأميركية في زمن المقاومة: هل يقود فشل التطبيق إلى سقوط النظرية؟

مهران نزار غطروف

توصّف السياسات التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية بـ «البراغماتية»، وهذا منطقي وطبيعي، فهي موطنها الأمّ، الفيلسوف الأميركي «تشارلز بيرس» كان أوّل من صاغ هذا المصطلح في مقالة له نشرت عام 1878، تحت عنوان «كيف نوضح أفكارنا» .

يقصد بـ البراغماتية الأميركية «الذرائعية والنفعية»، وذلك استناداً على مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة»، حيث يُغلَّب الجانب العملي على النظري منها، وتـتجه نحو الاهتمام «بالنتائج»، فلا تُعنى بالسؤال عن أصل الشيء حقيقته ، بل عن نتائجه ثماره ، وتوجه الفكر نحو المستقبل.

وبصورة أشمل فإنها كمصطلح تستخدم للدلالة إلى ما يمكن فعله في الواقع، لا بعالم المثاليات.

وهي باشتقاقها اليوناني الأصل تعني «العمل المفيد»، فهي تقرّر أنّ: «العقل لا يدرك غايته إلا إذا قاد صاحبه إلى العمل المفيد».

من هذا المدخل – ولأنّ الحديث عن «البراغماتية» يطول – نرى أنه بات من الضروري، وبعد كلّ هذه التطورات غير المسبوقة في منطقة الشرق الأوسط، أن نطرح السؤال التالي:

أين هو اليوم «العمل المفيد» في الممارسات الأميركية المنتهجة، من قبل الإدارة الحالية في الشرق الأوسط؟

قبل الإجابة على هذا الطرح، لا بدّ من وضع بعض الأمور في نِصابها الواقعي، والقول بأنّ الولايات المتحدة هي الأقوى في مسرح العلاقات الدولية حتى الآن، وهذا منطقي، بحكم الهيمنة الأميركية الطويلة، والمفروضة على معظم دوائر القرار في العالم، وذلك عقب الحرب العالمية الثانية، حيث بلغت ذروتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.

هذا الزمن الأميركي الذي وصّفناه، لم يكن خالياً من تمرد بعض عواصم القرار المستقلة في بعض أنحاء العالم، رفضاً لهذه السياسات الأميركية، التي يمكن تلخيصها بسياسة «من ليس معنا فهو ضدنا» ! كوبا، كوريا الشمالية مثالا .

شاءت الأقدار كما هي دائماً – أن يكون لهذا الشرق المُترع بالجراح «حصة الأسد» من الرفض للمنطق الأميركي «البراغماتي»، معلناً أنه لا يستوي التعامل ولن يستوي إلا على أساس «الندّيّة» في العلاقات.

وكانت سورية أول من اعتمد ذلك، استراتيجية وطنية عُليا، تبعها بعد ذلك إيران «الثورة»، حيث تلاقت المصالح السورية الإيرانية في ضرورة الصمود والمواجهة، مُشكلةً نواةَ هذا الحلف الممانع والمقاوم، والذي كان من أهمّ قراراته دعم حركات التحرر والمقاومة العربية خاصة، والعالمية عامة، فكان «حزب الله» اللبناني «كمينَ» الشرق الأعظم، وأهمّ منجزات هذا الحلف، ومفاجآته، كما أثبتت كلّ الوقائع، حتى اللحظة.

حتماً هذا كلّه لم يمرّ دون فاتورة من الأثمان الغالية، التي ترتبت على هذا المحور جراء قراره بالمقاومة، خاصة أنّ المتضرّر المباشر من كلّ الحاصل هو «إسرائيل»، أكبر قاعدة غربية – أميركية متقدّمة في المنطقة.

عقود من الحصار، والضغط، والمعارك المباشرة، أو غير المباشرة، قامت بها واشنطن بذاتها، أو عبر «إسرائيل»، أو عبر بعض حلفائها في المنطقة، لشق صف هذا الحلف المقاوم، وفي المجمل كانت النتائج لصالحه استراتيجياً، فالاستراتيجيات لا تقف عند التفاصيل، رغم آلامها، لأنه حين يتعلق الأمر بالكرامة والبقاء، لا يبقى هناك مجال للخوف أو الألم .

بإعلان الحرب على سورية، اتخذت المعركة هنا وجه جديد ومباشر، قائم على ضرورة كسر هذا التحالف، عبر ضرب مركزه القابض على دفة المواجهة، وعلى الأرض الحاكمة والمتحكمة في ميادين الصراع، بالموازاة مع استمرار الحصار الخانق على طهران.

ولكن وبعد سنوات الحصار والحرب هذه، ماذا كانت النتائج؟ وهل حققت واشنطن أي من أهدافها حربا على سورية، أو حصاراً على طهران؟ وبمعنى أدق: هل حققت شيئاً من سياسة «العمل المفيد» التي تنتهجها في هذا الشرق؟

الجواب: قطعا لا، لم تحقق شيئاً من كلّ العناوين التي «جيّشت» لأجلها ثلاثة أرباع العالم.

فلا هي غيّرت «النظام» أو «رأسه» في سورية، ولا هي غيّرت سلوكه، ولا هي فككّت تحالفاته، بل على العكس، وبسبب حربها هذه تشكلت جبهة ردع على مستوى كامل ميادين المحور، لم تكن قد تمظهرت من قبل، كما هي عليه الآن…!

أما بالنسبة لإيران، وعقب كلّ الحاصل بعد الخروج الأميركي من الاتفاق النووي معها، وعقب كلّ الضغوط التي بلغت أشدّها خلال الأسابيع القليلة الماضية، بما فيها المطالب الأميركية بضرورة أن يطال أيّ تفاوض قادم «محتمل» البرامج الصاروخية الإستراتيجية الإيرانية أيضاً!

حيث أقلّ ما يمكن أن توصف به هذه المطالب بأنها «أضغاث» أحلام، تتناب بعض «عُتاة» هذه الإدارة! فالأمر هنا مختلف تماماً عن الاتفاق النووي، فهو في جذره أيّ البرنامج النووي – لم يكن أكثر من ملف تفاوضي إيراني، كسبت منه طهران أكثر من المأمول بكثير، وهو كان شماعة أميركية بحجة كبح جموح طهران، الواثبة بثبات نحو نادي الكبار، ولكن ما حصل هو العكس تماماً!

لماذا الأمر مختلف؟ لأنه ببساطة أنك قد تفاوض على عدم استخدام «يديك» في أيّ صراع قد يحصل، ولكنك حتماً لن تفاوض على قطعها كـ «ضمانة» لعدم استخدامها في هذا الصراع…!

وهذا هو جوهر القصة الفعلي في كلّ ما يحدث، واشنطن لم تجنِ شيئاً، وهي الآن في مأزق يؤرق إدارتها، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنّ الأمور وقفت هنا بالنسبة لواشنطن! .

بناء على ما سبق – في الحالتين السورية والإيرانية – فإننا نرى أن «البراغماتية» الأميركية بـ»ذرائعيتها» المعهودة، قد تصدعت لأول مرة في تاريخها بهذا الشكل؟!

فلا هي اليوم قادرة على الحرب بالمفهوم الشامل، ولا حتى التلويح بها أتى أُكلهُ، نتائج الحرب على سورية تظهر ذلك بوضوح .

ولا سياسة الحصار – المُجرّب طويلاً – لإجبار خصومها في طهران الجلوس معها على الطاولة، والقبول بشروطها، يمكن أن يغيّر في هذه المعادلة شيئاً! والشواهد كثيرة يلخصها التعاطي الأميركي المتذبذب والمترنّح مع التطورات الأخيرة في مياه الخليج .

إذاً: الصمود السوري مع الصبر الإيراني، أسقط سياسة واشنطن القائمة على ضرب الضعيف، لتخويف وزعزعة القوي، فلا ضعفاء بعد اليوم في هذا الشرق.

والوضع حالياً يتأرجح بين «الجُمود المُرجح، والانفجار المُمكن»، ولم يعد هناك متسع للخيارات في زمن بات فيه القرار أيّ قرار – مصيري، فالأمر اليوم متعلق بمن هو مُسيطر، لا بمن هو فاقد للسيطرة!

وما يجب مراقبته حقيقةً، هو الخط البياني المتصاعد لطرف محور المقاومة وحلفائه، وليس لطرف واشنطن وحلفائها، لأنّ من يملك التصعيد وخوض الحرب أيّ حرب هو محور المقاومة حصراً، ومن يسيطر اليوم على خطوط النار في المنطقة، هو الذي يفرض الشروط، ويحكم ويتحكم بالملفات، لأنّ «النصر حليف المتحضرين» كما يقول المثل الغربي الشهير.

صديق ودبلوماسي سوري، لخص الحرب على سورية وعلى مبدأ لعبة الكوتشينة، أو ما يُعرف عندنا بلعبة ورق الشدّة قائلا: «إنّ الفرق يكمن الآن، بأننا بتنا نمتلك إلى جانب أوراق اللعب القوية، لاعبين محترفين، يضاهون خصومنا، وهم قادرون على الانتصار عليهم، والبقاء طويلاً في المنافسة».

والواقع في الشرق الأوسط اليوم يقول: مرحباً بك في «عالمي» ندّاً وشريكاً بشروطي لا بشروطك ، ووداعاً لزمن الهيمنة إلى غير رجعة، والجميع هنا في هذا المحور، هو على مسافة واحدة من السيادة والاستقلال، فهنا دمشق وطهران وبيروت وصنعاء وبغداد هنا القدس.

ختاماً: وبعد قرابة القرن والنصف 1878 2019م من نشأتها، وسيادتها الثقافية، والعملية على المجتمع الأميركي برمّته، وفرضها وتطبيقها على معظم حكومات ومجتمعات العالم.

نعم يمكن القول: إننا اليوم نشهد بداية السقوط الكبير لـ «البراغماتية والذرائعية» الأميركية، ومن بوابة هذا الشرق حصرا.

لأنّ «الحقيقة» وفقاً للنظرية «البراغماتية»، ما هي إلا «الحلّ العملي، والممكن لمشكلة ما»، وفي الشرق الأوسط وبحسب التجربة السورية الإيرانية، قد فشلت واشنطن حتى الآن بإيجاد أيّ حلّ عملي، أو ممكن مع هذه المشكلة الحقيقية التي تدعى «محور المقاومة»؟

وفشل التطبيق سيقود حكماً إلى سقوط النظرية، كما يبدو!

لذلك فإنّ العقل الأميركي لم يدرك غايتهُ، لأنّهُ لم يَقُد صاحبهُ إلى سياسة «العمل المفيد»؟

لقد أخبركم الرئيس بشار الأسد سابقاً بـ أنّنا على «الفالق الزلزالي» في هذا الشرق؟

ولكنّه لم يخبركم أين ستصبحون بعد أن قرّرتم التورّط فيه حتى النهاية؟

ولم يخبركم عن كمّ البراكين التي أنتم فوقها اليوم جاثمين؟

ولن يخبركم لأنّه «ما من بلد يتحدث عن قدراته»، بحسب الرئيس الأسد أيضاً في مقابلة له مع صحيفة «ميل أون صنداي» البريطانية آذار 2013.

فكيف إذا كانت قدرات محور كامل متكامل كـ محور المقاومة؟

حيث لن يبقى لكم من يؤرّخ المفاجآت، إنْ دخلتم في المحظور؟

ولن تدخلوا، ليس لـ «براغماتيتكم» الفاشلة! بل ليقينكم بما ينتظركم…

إعلامي وكاتب صحافي سياسي سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى