فنان الدهشة «سموقان» في معرضه الفنّي التشكيليّ الجديد «تحية لسوريانا»: الأسطورة في مقاربات تعبيريّة وواقعيّة وتجريديّة
نظام مارديني
لا يمكننا عن بُعد تقديم قراءة متكاملة ووافية لمعرض الفنان التشكيلي الكبير، محمد أسعد الملقب بـ «سموقان»، والمقام في كاليري الحكمية باللاذقية تحت عنوان «تحية لسوريانا»، حيث يضمّ المعرض 43 لوحة متنوّعة بأشكالها وأحجامها مستخدماً فيها الألوان الزيتية والاكريليك…
ولكن سنحاول في هذه القراءة المتواضعة الإشارة إلى أن ثمة إصراراً واضحاً من قِبل الفنان سموقان على تمجيد الألوان كما في معرضه هذا، واستحضار البهجة التي يستوحيها من الأسطورة، ومن أحلامه المتدفقة مثل ينبوع لا ينضب، والتي لا تخلو من مقاربات تعبيرية وواقعية وتجريدية، إلا ضمن مفهوم النظرة المحددة للفنان أو من خلال رؤيته الفكرية والفنية والجمالية التي تحمل المعنى، ولكن ضمن السياق الفني للفكرة.
هو ساحر في دمج الخيال مع الأسطورة، ليحملنا بعيدا عن تخوم الواقع الصادم إلى جمال سكنت حضارته فوقه، ذهب بنا إلى عوالم غامضة أنستنا قسوة الواقع المرير وبؤسه، هي عوالم تتدفق من روحه المبدعة في فضاءات لوحاته وأعماله، فأخرج المتلقي من ضيقه وكثّف هدير القلب الصّاخب الذي لا يعرف التوقف ووجّه العين إلى نوافذ الضوء والانبهار الاستثنائي.
ما يميّز أعمال هذا الفنان «العتيق» هو ثيماته الاسطورية ورموزه الحيوانية، وتفجّر ألوانه القوية والصارخة التي تخطف القلوب وتغيّر مزاج المتلقي وتبعث في نفسه الدهشة والنشوة القصوى.. ولكنها نشوة تبقى بحاجة إلى بعض المفاتيح لسبر أغوار الموضوعات التي يجسّدها الفنان على السطوح التصويرية، فثمة رؤىً وأفكار عميقة في كل لوحة.
من المفيد القول بأنه لا يمكن قراءة هذا المعرض على شكل كتاب بصري شديد التكثيف تمثّل فيه كل لوحة واقعاً تعبيرياً أو واقعياً أو تجريدياً جديداً، على السطح التصويري الذي يراهن على التجليات اللونية وكأنه يوحي لنا سموقان بأن جهوده الفنية منصبّة على الشكل كما على المضمون في صياغات مادية وروحية مدرحية قوية في الرسم، مليئة بالألوان والطاقة.
ومثلما ينطلق الحلم من نتوء تعبيري وواقعي كذلك ينبثق التجريد من تكوينات غير مألوفة للمتلقي العادي، لكن «شطحات» الفنان سموقان تأخذنا بعيداً إلى فضاءات مدهشة تهدف إلى إبهار المُشاهد وهذا هو سرّ «اللعبة» الفنية.
بهذا المعنى، تفتح اللوحات المعروضة والمتنوّعة بأحجامها آفاقًا جديدة مختلفة أتاحت للمتلقي فيها، السياحة والترحال في عوالمها اللانهائية وكأن الفنان هدف من ذلك إلى تغطية أبعد مساحة ممكنة تستطيع أن تلمّها باصرة المتفرج.
ما أود قوله، إن هذا الازدحام المبهر القائم في لوحة بعل والممتزج بالواقع الميثولوجي، إن كان عبر الخطوط أو عبر تقنيته الخاصة في الألوان.. هو بلا شك ازدحامٌ يملأ مساحة اللوحة ويحوّل عناصرها الى مفردات تختزن تلك الرؤى البصرية والروحية المكثفة، والغنية بالضوء.
بهذا المعنى سعى الفنان بجد ودأب كي يضفي شروقاً متميزاً على سطوح لوحاته فيها الكثير من الثيم والإيقاعات والمفردات المتداخلة والمساحات اللونية التجريدية ذات إيقاع مصنوع، تمنح المتلقي الحرية في استقبال العمل الفني كما يشاء له خياله، والالوان هنا، ما هي إلا إيحاء لغوي مستمدّ من تداخل الدلالات العقلية بدلالات المشاهدة، ليكتسب كل منهما خصائص الأخرى.
إن إيقاع الألوان هذا إذ يتكاثف لديه وكأنها سمفونية تحاول أن تجمع أزمنه متفاوتة في لحظة واحدة من خلال هارمونية بصرية تعيد رسم معالم الواقع وفق رؤية فلسفية، تحمل الجوهر لتحيله إلى ما ورائية قصدية تتناغم بين الصفاء الروحي والتأمل العقلي، لهذا كانت ملاحمه الفنية مستلة من حكايات الماضي الأسطوري للهلال الخصيب، ولا يقلل هذا المضمون من استعانته ببعض الرموز الحيوانية، الفرعونية أو اليونانية، حتى أصبحت لوحاته أمامنا أجناساً مقدّسة نتأملها كما نتأمل أي جنس مقدس في التفسير والتحليل والاجتهاد، ولكن هل يمكن لأي متلقٍّ أن يستمتع بلوحة الفنان سموقان، أو يستطيع تفكيكها، وفهم تفاصيلها الدقيقة ما لم يكن ملماً برصيد بصري جيّد يؤهله لاستكناه معنى العمل الفني، والاستمتاع بلذته الجمالية؟
ثمة إصرار آخر واضح من قِبل الفنان سموقان على تمجيد المضمون. فالأسطورة الأوغاريتية والرافدية.. والتكوينات الحيوانية عناصر أساسية لديه، فهو يحاول في جهده الإبداعي أن يعطي مفاهيم وتصوّرات ورؤية معاصرة للفن للوصول إلى مفاتيح تفكك أو تقرّب الفكرة الى عقل المشاهد، عبر قراءة معمقة وغنية بالإشارات اللا متناهية وكأنها ظلال تتمخض بالتفجّر الروحي لإثمار الخصب اللوني في جسد اللوحة.
لقد منح الفنان سموقان أعماله التي ضمّها خطابه التشكيلي قيماً فنية متعددة خاصة القيمة البصرية التي أراد أن يتحاور من خلالها مع المتلقي بطريقة ذكية، جعل هذا المتلقي يذهب بالفعل في دهشته حتى النهاية.