قال الثامن من تموز: قف بعزٍّ… ولا تمت قبل أن تكون ندَّاً!
نصار إبراهيم
ابتسم الأوّل وهو يصعد نحو مجده قال: «الحياة وقفة عز فقط»…
ابتسم الثاني وهو ينفجر ككوكب درّي قال: لهذا «لن أموت قبل أن أكون ندَّا»!
هل هي مجرد صدفة أن تتقاطع وتلتقي مصائر وأقدار رجلين يفصل بين استشهادهما 23 عاماً!؟ الأوّل أنطون سعاده الذي استشهد إعداماً في بيروت في 8 تموز 1949، والثاني غسان كنفاني الذي اغتالته «إسرائيل» في بيروت ذاتها في 8 تموز عام 1972.
كيف يكون ذلك صدفة فيما الهدف والفكرة والعقيدة واحدة… والعدو أيضاً ذاته!؟
لنقرأ إذن…
ـ أنطون سعاده
1 آذار 1904 8 تموز 1949
في الثامن من تموز عام 1949 استشهد إعداماً الأديب والمفكر اللبناني أنطون سعاده – الزعيم، مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي صاحب المقولة الشهيرة «الحياة وقفة عز فقط».
وأنطون سعاده هو الذي أطلق خلال حرب فلسطين عام 1948 حركة مواجهةٍ قوميةٍ شاملة ردّت عليها الحكومة اللبنانية آنذاك بشكل فوري وصارم، فلجأ سعاده إلى دمشق فاستقبله حسني الزعيم، الذي سلّمه بعد شهر للسلطات اللبنانية، وفق صفقة بتاريخ 7 تموز/ يوليو 1949، حيث تمّت محاكمته، وأُعدم في 8 تموز/ يوليو عام 1949.
«الجريمة لم تُسجل ضدّ مجهول، فأبطالها معروفون، إنّها جريمة دولية بامتياز، اشترك في تنفيذها أطراف عدّة لتثبيت اتفاقية سايكس بيكو، وتأمين تدفق النفط إلى السواحل الأوروبية، وخنق كلّ المبادرات القومية التي برزت بقوّة في أثناء الاستعمار وبعده. هذا المشهد المركّب يعاد إنتاجه اليوم في العراق والشام ولبنان وفلسطين والأردن، ولكن بأسلوب أكثر دمويّة، وأشدّ وقاحةً، وأقلّ أخلاقاً…
في ذلك اليوم التراجيدي يوم الإعدام يروي الكاتب السوري القومي الاجتماعي المبدع سعيد تقي الدين ما حدث:
1 – طلب سعاده، بعد خروجه من الزنزانة، وسوقه إلى مكتب السجن مكبّل اليدين، أن يرى زوجته وبناته، فقيل له «ذلك غير ممكن».
2 – وطلب مقابلة الصحافيين، فأخبروه «أنّ ذلك مستحيل».
3 – فسألهم ورقة وقلماً، «فرفضوا».
4 – قال: «إنّ لي كلمة أريد أن أدوّنها للتاريخ».
يقول الكاهن: «فسكتنا جميعاً، في صمت يُلمس سكونه، ويسمع دويّه».
يقف الزعيم الشجاع ويطلق نبوءته:
«أنا لا يهمّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي. كلنا نموت، ولكنّ قليلاً منّا من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة» الياس عشي البناء 8 تموز 2019 .
انطون سعادة ملح الأرض… فكرة ياسمين الشام تزهر مقاومة كالوعد… وعينها لا تفارق فلسطين…
ـ غسان كنفاني
8 نيسان 1936 8 تموز 1972
في ذلك الصباح، 8 تموز 1972 «جلسنا جميعنا أطول من العادة، نشرب قهوتنا التركية على الشرفة. وكان لدى غسان كما هو دأبه الكثير من الأمور للتحدث عنها، وكنّا كما هو دأبنا دوماً حاضرين للاستماع»… غادرنا الصباح… انتهى زمن القهوة سريعاً… في الصالة كان شغب حبيب بين ثلاثة أطفال ورجل له قلب طفل أيضاً… في النهاية أصلح الرجل «القطار الكهربائي لابننا فايز ولابنة أخته وأخيها»… وقف الرجل قليلاً… تأمّل الأطفال وهم يتابعون دوران القطار الصغير… تمنّى لو يبقى أطول… لكنه نظر إلى ساعته… عليه أن يغادر فهناك عمل ينتظره في مكتب المجلة المقصود مجلة الهدف … وهناك رفاق ينتظرون أيضاً… كما ينتظره وطن على مسافة نداء…
دقيقتان فقط… «حتى دوّى انفجار مريع… تطايرت نوافذ البيت جميعها. انحدرتُ بسرعة، لأجد أشلاء سيارتنا الصغيرة تحترق. وجدنا «لميس» على بعد بضعة أمتار، ولم نجد غسان. ناديته باسمه، ثم اكتشفت ساقه اليسرى. وقفت مشلولة، فيما راح فايز يضرب برأسه الحائط، وردّدت ابنتنا ليلى النداء تلو النداء: «بابا، بابا.. « آني كنفاني .
في الثامن من شهر التين… في بيروت… قيل إنّ كوكباً دريّاً قد انفجر وتشظى… ومعه هوى قمر يتبعة كفراشة… قيل إنّ الكوكب يشبه وجه بحّار فلسطيني يدعى غسان، والقمر بحجم فراشة اسمها لميس… كانت تلك اللحظة تشبه لحظة موت، أو لحظة تكوين وولادة… في ذاك اليوم انهمر الضوء بلون الحنّون فأضاء بيروت وأشجار الأرْز ثم امتدّ إلى البحر… ومن هناك امتدّ ليغسل أشجار الزيتون من رأس الناقورة حتى غزة…
كانت يد البحّار تحمل قلماً… أرسلها التفجير إلى البحر… ومن هناك راحت تبحر… أقسم بحّارة في البحر المتوسط أنهم يشاهدون في الليل المقمر يداً تشقّ البحر كزورق… تحمل مجذافاً يشبه قلماً… وتمضي جنوباً كشراع أزلي… تمضي إلى وطن يشبه حلماً ويقيم على مسافة حقلٍ من حنّون…
منذ الحَوْلِ الأولِّ بعد التفجير… والمواسم تهلُّ وترحل… يهلّ ربيع ويرحل… واللوز يزهر في نيسان أو أبكر… يأتي تشرينٌ ومعه موسم زيتون، يرحل تشرين ويأتي آخر في العام القادم… أما الصحراء فلا زالت كالبحر…
تبتلع الفلسطيني فيغوص عميقاً في كثبان الرمل… وككمأ الصحراء يعود مع الرعد…
تهلّ الأقمار قمراً يتبع قمراً… ويزداد القلم عناداً… ويجذِّف… ويجذِّف… يذهب حينا في عمق البحر وحيناً نحو الشاطئ… لكن البوصلة تبقى ثابتة… تشتدّ الأنواء البحرية والبوصلة لا تفقد وجهتها أبداً… عكا.
قال العاشق: لا تمتّ قبل أن تكون نداً! هذا ما أراده فكان.
اليوم في 8 تموز نتذكر الشهداء الصاعدين من هذه الأرض… نتذكر أحلامهم… ونتذكر القضايا التي استشهدوا من أجلها… لقد رحلوا… ومع ذلك لا تزال وصاياهم وكلماتهم تولِّد كلّ يوم مقاومين يدقون جدران هذا الواقع العربي المحزن ليعيدوا المجد للأرض والإنسان والكلمة.