«أنا عارية منّي»… ضياع في مجرّة الغياب!

محمد رستم

منذ شهقة أول حرف في العنوان العالي، تعلن الشاعرة انكشافها التام بعد تغييب «أناها» الحاضرة عمداً في الشعور، لتخاتل قارئها، فتموّه هروبها إلى أناها المتلبّس في اللاشعور.. حيث كلّ شيء يتم هناك طواعية، دون حواجز أو تأشيرة دخول إلى عالم غير محكوم باللاءات والخطوط الحمر. هناك ـ لا غيرـ تفصح الحروف عن نفسها بكل وضوح، هناك في الأعماق حيث الرغبات والغرائز لا تتعامل مع الأرصدة المزيّفة، فلا خداع ولا مواربة، هناك يتم الاعتراف، فهي تتجلّى عارية من كلّها، أمام فقد تكاملها الصلصالي الروحاني..

وهي ترى في ما يندّ عنها، هذيان، كي لا تحسب عليها أنفاسها، لكنّها في الوقت ذاته توضح أنّ ولادة اللحظة الشعريّة إنّما هي حالة من هذيان:

«باكورة هذياني في ألحان قيثارتي..».

وهذا مما يُحسَب لها…

الديوان مجموعة قصائد نثيرة، وإذا استثنينا قصيدة الأم، والأب، وقصيدة الهم الوطني تكاد القصائد بمجموعها تشكّل قصيدة واحدة من حيث موضوعها وحاملها ومحورها الدلالي. إذ جعلت الشاعرة مارينا سلّوم من آدمها أساس حكايتها، فتأبّطت عشقه ومضت، لا تفتأ تستمطر من ذكراه كل برهة قصيدة، مما جعلها تبدو للعيان كغيمة مكتظة بالمطر الزلال.. وهي لا تني تعيد بلا كلل وملل بين كلّ قصيدة وأخرى حكايتها المؤلمة مع ذاك الآدم، وكأنّها قصة إبريق الزيت ، لكن دون أن تجني من كلّ ذلك إلّا زبد الكلام.

يندرج إهداء الديوان إلى والدها من باب، كل فتاة بأبيها معجبة ، وهذا حقّها، ولا يفوتها أن تعرض عبارتها في تناصّ مع مقولة سقراط «تكلّم لأراك»، فتقول: «ليكون لي فخر أنّك أول من رآني».

ولا يسعني إلّا أن أغبطها على تقديم الأديب «طلال مرتضى للديوان»، حيث ارتقى بشفيف حبره سلالم الشعر..

تنثر الشاعرة قصائدها المتمادية الشكوى، فتبدو كناي يطلق أنينه المبحوح في فضاءات الكون، ولعلّ هاجس لقائها بآدمها يسدّ عليها كل المنافذ، فهي تلهث لأن يعلق بشباك توقها نصفها الآخر، حيث يغدو العشق والحنين لغة التواصل بينهما:

«نرسم قلبين نابضين.. من رعشة شفتين.. ملامسة يدين.. حفيف جسدين متلاصقين… تعال نغرق في العناق.. فالموت يطيب في العشق»..

مثل هذه الحالة تتكرّر في الكثير من القصائد لكن بحروف مغايرة، وواضح سيطرة الحالة السرديّة الوصفية، حيث تتنحّى الحالة الشعريّة التي يأتي التكثيف شريانها الأساسي، كما هو واضح الصورة الحسيّة التي يعكسها النص في مراياه.

ومن الملاحظ تركيز الشاعرة على الشفتين كوسيلة تواصل عشقية، سواء بذكر الدال مباشرة أو بالنيابة كذكر القبل مثلاً، مع العلم أن العيون هي الوسيلة الأهم في موضوعة العشق:

«عشق وجيشان للروح في الشفتين»، «رعشة شفتين»، «شفة.. قبلة»، وهذه الدوال تتكرّر كثيراً أيضاً وكأن الشاعرة تتناسى أن الشفتين وسيلة تواصل كلامية.

في قصيدة «آه صديقي» تقول:

«حلمي في الصغر..

مدينة مغسولة بالمطر..

أرصفة..

ساحات..

عطر..

رجل وأنا..

شفة..

قبلة….».

وكأن خللاً ما في مطالع القصيدة، فما علاقة حلم الصغيرة بالرجل والقبل؟

وفي أحيان أخرى تكون الصورة حسيّة موحية: «فيدانا متشابكتان.. الجمر والبخور متلاصقان.. حفيف طقوس بدائية..».

وبعض الأحيان تكون الدوال نافرة:

«حلم يفتضّ بكارة الأجساد.. يا جسدك يهيم بين أناملي كعاهر».

لعلّ كلمتي «يفتضّ» و»عاهر» نافرتان، والديوان بالكامل قائم على الثنائيات الضدية، بين ذكورة وأنوثة، ربيع وخريف، لقاء وجفاء، حضور وغياب فرح وحزن، أمل وخيبة.

والقصائد مغمّسة بالضيق والضياع والسوداويّة القاتلة والخيبة والإخفاق في امتلاك الحبيب:

«تحمّل القلب لينهل من بحور

وهمّك..

تهرب الروح ظمأى لأي تصاريف

قلبك للنغمات».

إنها تتلمّس في نثيرها حالة الفقد والارتهان لضغط مشاعر الغياب، غياب الحبيب الذي ظلّ عالقاً في شرايينها. كيف لا ودأبها أن تناجيه، بعد مراودته بدفين الوله والذكريات، وتمهّد لأن تقبض على الطيف الذي سفح حواسها على مذبح البعد والغياب، فغدت بوصلتها خاوية، سمتها الهباء، جهاتها السراب:

«أتقلّب على صفحة الموت..

رماداً

أو نثاراً».

وفي خطوة موفّقة تحسب للشاعرة حيث تشارك الطبيعة مشاعرها وأحاسيسها:

«هربت من الألم شوكة..

أنبتت في حلق الزمن

شجرة..

اختنقت بها الهاوية..».

وكما ذكرت فإنّ الديوان يشكّل قصيدة واحدة محورها عزف على ترنيمات وجع مختلف الآهات والتنهدات.. ومن هذا الألم تقطر البهائية الجمالية فتبث قصائدها انفعالات روحها المتوثبة..

والمؤلم الدائم الحضور هو غياب الحبيب، هذا الحبيب الزئبقي الكيان والهيئة. ففي مشهديّة الحضور الطاغي لمشاعر الوجد والشوق، نلحظ النكران أو التجاهل من قبل الحبيب، في أضعف الإيمان، أتساءل، أين الرد سلباً أو إيجاباً منه لهذه الأنثى، التي تسيل الرغبات محمحمة في أوردتها، حيث يشدّها التوق نحو حبيبها، تحلم بلقاء، لكنها تجد نفسها لا تبوء إلّا بالخسران، فتظل كسيزيف ترمي بشباك توقها، اشتهاء، وهي تكتوي بأوار سعير اللهفة، وتأتي قصيدة «خربشات»، لتلخّص الحكاية:

«حمل حقيبة الحلم وهرب..

أنلتقي..

ويح خيالي بالسراب..».

ومع كل ذلك تبقى متعلّقة به:

«إليك أينما كنت..

ترسم أناملي ريح غيابك».

الديوان صوت للأنثى العاشقة بطبقة عالية الرتم، تجدها متخفّفة من كل شيء، سوى هواجسها التي تجسّد توقها الدائب لآدمها، الذي تندّيه برضاب خيبتها، وهي تفتح لعطر حروفها كوة الضوء.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى