الأفول الأميركي سياق تاريخي
ناصر قنديل
– لا تستقيم عملية فهم ما تشهده الزعامة الأميركية في العالم إلا إذا أُخذت في سياقها التاريخي، فأميركا التي بدأ صعودها كدولة عظمى مع الحرب العالمية الأولى، تكرّست مكانتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، كدولة قادرة على خوض حروب كبرى تدفع خلالها مئات آلاف الجنود في ساحات القتال وتنفق مليارات الدولارات على الحروب، وهي التي خاضت بعد الحرب العالمية الثانية حروباً طويلة ومكلفة رغم خسارة مئات الآلاف من جنودها في الحرب، فكانت الحرب الكورية وحرب فيتنام في ظل الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي مساحات تثبيت المكانة الأميركية الجديدة، وهذا التجاذب بين النجاح والفشل في الحروب لا يمكن الحكم عليه إلا بنهايته، التي نقلت أميركا من دولة عظمى إلى الدولة العظمى مع نجاحها بتفكيك الاتحاد السوفياتي وسيطرتها على دول أوروبا الشرقية عام 1990، حيث يمكن القول إن الحرب الباردة الممتدة من مؤتمر يالطا عام 1954 إلى سقوط جدار برلين عام 1989، قد إنتهت بانتصار أميركي شكل بلوغ واشنطن قمة السيطرة على العالم وقمة النفوذ وقمة الصعود.
– في تاريخ الإمبراطوريات لا يمكن النظر لبلوغ القمة كحدث عابر، يمكن أن تكون الخيبات وعمليات التراجع بعده بميزان ما قبله ذاته. فالإمبراطوريات التي تبلغ القمة، وتبدأ بالتراجع تكون قد دخلت زمن الأفول، وبدأت تعيش شيخوختها. وبالنظر للحال الأميركية بعد الانتهاء من هزيمة الاتحاد السوفياتي والسيطرة على تركته كما فعلت بالسيطرة بعد الحرب العالمية الثانية على تركة بريطانيا وفرنسا، يمكن القول إن التوسّع الإمبراطوري الأميركي على حدود روسيا قد بلغ مداه، في عهد الرئيس بيل كلينتون، وأن ولايتَيْ الرئيس جورج بوش كانتا الفرصة لتطويع قوى الممانعة الآسيوية، وإكمال تطويق روسيا من الشرق. وهذا مغزى حربي أفغانستان والعراق، ومن بعدهما الحروب الإسرائيلية الصغيرة في لبنان وفلسطين، وهي حروب انتهت بالفشل جميعها، ومن بعدها كانت الحرب الناعمة المسماة بالربيع العربي درباً جديداً للفشل في إخضاع آسيا، حيث المثلث الروسي الصيني الإيراني، وحيث الحرب على سورية يمكن وصفها بآخر الفرص لتثبيت الزعامة الأميركية.
– يسهل الاستنتاج بتراجع حيوية المجتمع الأميركي بتراجع قدرته على خوض الحروب. فالمقارنة بين حرب فييتنام وما قدمته فيها أميركا قبل أن تبدأ بالتفكير بالانسحاب، وحرب العراق وما كان كافياً لتراجع أميركا عنها، يقول إنه الفرق بين الدولة التي قدمت خمسين ألف قتيل من جيوشها وصمدت عشرين سنة وهي تقاتل حتى بدأت تفكر بالانسحاب. والدولة التي لم تتحمل خسارة أقل من خمسة آلاف قتيل وخمس سنوات حتى استسلمت لفكرة الفشل واقتنعت بالحاجة للانسحاب، وتراجع الحيوية يظهر اقتصادياً بأرقام لافتة تحدث عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في خطاباته الانتخابية من تراجع النمو حجم البطالة وتهالك البنى التحتية، وإقفال المصانع وكساد الزراعة، بينما كانت اقتصادات دول منافسة كالصين تسجل نسباً عالية في النمو، والقدرات العسكرية لدول منافسة كروسيا تسجل تطوراً في القدرة التسليحية النوعية، والقدرات البشرية القتالية لدول مثل إيران وقوى المقاومة تظهر قدرة احتمال في الميدان على التضحيات التي افتقدتها القوات الأميركية في جولات متتالية من المواجهة.
الأفول الأميركي تعبير غير مبالغ به بقياس الخط البياني للسلوك الأميركي في مواجهة الأزمات، فهل من مرة سابقة فقدت خلالها أميركا طائرة عسكرية على يد دولة اخرى تعلن مسؤوليتها، ولم تقم أميركا بالرد، وهل من سابقة عن مرة ضربت فيها أهداف قالت واشنطن إنها ستشعل حرباً إذا وقعت، كما كان الحال في الحديث الأميركي عن حماية المصالح النفطية في الخليج، وعندما حدث ذلك تراجعت أميركا، وبالتوازي أيضاً، هل من سابقة لوحدة وعزلة أميركا وفقدانها القدرة، تشبه إعلانها الانسحاب من الاتفاق النووي وبقائها وحيدة، أو تشبه إعلان تأييدها لاعتبار القدس عاصمة لـ إسرائيل وبقائها وحيدة أيضاً، أو إطلاقها مشروع صفقة القرن وعدم الحصول على أي تأييد دولي ذي قيمة؟
ما يشهده الخليج من تجاذب إيراني أميركي يشبه التجاذب الأميركي الأسباني والأميركي البريطاني في القارة الأميركية، فعندما كانت بريطانيا إمبراطورية بدا أفولها بخسارة مكانتها في القارة الأميركية وعندما كانت اسبانيا إمبراطورية حدث معها الشيء نفسه، حتى ان الحركة البوليفارية التحررية في أميركا الجنوبية التي قادها سيمون دي بوليفار بوجه الأسبان، تمت تحت شعار التشبه بما فعله الأميركيون الشماليون مع البريطانيين. وما تفعله إيران اليوم مع أميركا يشبه ذلك الفعل يومها، خصوصاً لجهة الإعلان عن نهاية زمن إمبراطروية عظمى.