«النفايات الطبيَّة» في «هوا أصفر»: التعايش الممكن بين الفنّ والرسالة!

مهدي زلزلي

النقاش بين جماعتَي «الفنّ للفنّ» و»الفنّ للحياة» سرمديّ، وليس محتمَلاً أن يشهد نهاية منظورة تكرّس انتصار أحدهما على الآخر. ومن جملة الحجج التي يسوقها أنصار المذهب الأوَّل في سبيل الدفاع عن وجهة نظرهم أنَّ تحميل الأعمال الإبداعيَّة بالرسائل على أنواعها يؤثر سلباً بل ربَّما يقضي تماماً على عنصر الإمتاع الملازم للفنّ، ويحوّله إلى مادّة وعظيَّة جافة.

ولما كانت أبرز المآخذ على الدراما اللبنانيَّة المعاصرة هي غرقها في قصص الحبّ المحرَّم والخيانة والانتقام المكسيكيَّة الطابع أو «التركيَّة» أحياناً ، والتي لا تدور إلا في قصور منيفة وشركات ضخمة وحول موائد مترفة، في بلد يعيش أغلب سكّانه تحت خطّ الفقر. فقد لجأ بعض الكتّاب إلى التجاوب السَّريع مع هذه الرؤية بطريقة شعبويّة قائمة على التسطيح أصابت المنتقدين أنفسهم بالندم والتفكير في التراجع عن مطلبهم!

هكذا، صرنا فجأة نحظى بمشهد مقحَم هنا يدّعي معالجة قضيَّة بحجم الوجود الفلسطينيّ في لبنان، وخطّ انتهازيّ هناك يزعم سعيه إلى إنصاف الجيش اللبناني وتضحياته في مواجهة الإرهاب، ومسلسل يتكئ بشكل افتعاليّ على فضيحة تزوير أدوية السرطان الشهيرة، دون توخي الإقناع والاعتناء كثيراً بتعميق الصّلة بين القضيَّة المطروحة وحبكة العمل عبر شدّ العقد التي تربط بينهما.

يبقى الكلام نظريَّاً والفكرة ضبابيَّة حتى يتمّ إسقاطهما على «هوا أصفر» كتابة علي وجيه ويامن الحجلي/ إخراج أحمد ابراهيم أحمد . المسلسل السوريّ الذي شارك فيه عددٌ كبير من الممثلين اللبنانيين أعادَ إلى المُشاهد القناعة بأنَّ الجمع بين تناول القضايا الإنسانيَّة المَعيشة وتحقيق شرط الإمتاع ممكن إذا ما توافر في كاتب النصّ الإخلاص الكافي والكفاءة اللازمة والثقافة الواسعة.

يطرح كاتبا العمل قضايا متعدّدة يعاني منها المواطن العربي وخصوصاً في سورية ولبنان حيث تدور الأحداث من تهريب الآثار، إلى زراعة المخدّرات والاتجار بها، إلى فساد المسؤولين، إلى بيع بعض الصحافيين ذممهم لقاء عروض مغرية يسيل لها اللعاب، من دون أن يتخلّيا عن حبكتهما المشوّقة والفريدة التي تحبس الأنفاس وتولد لدى المشاهد القدرة والرغبة في مشاهدة الحلقات الثلاثين دفعةً واحدة.

ولعلَّ أبرز القضايا المطروحة في العمل هي مسألة استيراد النفايات الطبيَّة من الخارج لدفنها في بلادنا لقاء مبالغ مجزية، وهو ما يُعيدنا إلى ما آثاره مجدَّداً وزير البيئة اللبنانيّ السَّابق طارق الخطيب في العام 2018 حول وجود براميل نفايات سامَّة خطرة مطمورة في جرود كسروان كان قد تمَّ إدخالها إلى لبنان من ايطاليا عبر مرفأ بيروت أثناء الحرب الأهليَّة وتحديداً في أيلول 1987، في ما عُرِفَ باسم «صفقة الموت» في حينه.

يرسم الكاتبان هذه الحكاية بصورة مقنعة جداً تشتبك وتتكامل مع ما عرفه المشاهد عن شخصيَّة «أمير» يامن الحجلي ، الشاب الذي انتقل بضربة واحدة من جحيم الفقر إلى نعيم الثراء والسّلطة بعد عثوره مع صديقه شفيق يزن خليل على قطع أثرية وسبائك ذهبيَّة تحت منزل شاميّ قديم اشترياه بطريقة احتياليَّة من العجوز «أم زكي» أنطوانيت نجيب .

أمير هذا، الرَّاغب في مضاعفة ثروته سريعاً، يتجاوب مع العرض الذي قدّمه إليه المسؤول الفاسد واسع النفوذ «أبو يَعرُب» أيمن بهنسي بإنشاء شركة باسمه تستورد النفايات الطبيَّة من الخارج على أنَّها أدوية. قبل أن يوافق، يلتبس على «أمير» فهم التسمية فيشرحها له «أبو يَعرُب»: هي «زبالة المستشفيات والمَخابر» التي «يزعمون أنَّها تحتوي على مواد مشعة وسامَّة»، معللاً الأمر بكون «الأجانب مفزلكين زيادة»، ليكون ردّ «أمير» لائقاً بصعلوك تحوَّل فجأة إلى «إمبراطور»: عليّ الحلال الأجانب مفزلكين، يعني إذا نفايات «طبيَّة»، لا ضرر ولا ضِرار، مين بدّو يتأثر؟

كما أنَّ تقديم «أبو يَعرُب» نفسه العرض يأتي كخطوة طبيعيَّة بالنظر إلى ما سبق للمُشاهد الاطلاع عليه من سلوكه على مدار حلقات المسلسل، وهو المسؤول الذي يعرقل المشاريع الناجحة مشترطاً اقتطاع «لقمته» الكبيرة منها قبل الموافقة عليها والسَّماح لها بإبصار النور. ولكن اكتمال المخطط يلزمه موقعٌ بعيدٌ عن الأنظار لن يستطيع تأمينه إلا «شوَّال» عبد الهادي الصبَّاغ المهرّب الخبير الذي يستمتع بتذويب أعدائه بالأسيد، ويبسط سلطته على مساحة جغرافيَّة كبيرة في الجرود الواقعة عند الحدود اللبنانيَّة السوريَّة، جاعلاً منها إمارته الخاصَّة. استغراب «شوَّال» المحكوم بالجشع وشهوة القتل وردّه على أمير لحظة مفاتحته بالموضوع بعبارة «الله لا يوفقك على هالفوتة» مرفقة بضحكته الصَّاخبة، لا يعني مطلقاً أنَّه في وارد تفويت فرصة مماثلة على نفسه!

هكذا يتماهى الخط المتعلق بقضيَّة النفايات الطبيَّة مع ما سبقه وما سيليه من أحداث المسلسل، ويلعب دوره إلى جانب بقيّة الخطوط في مضاعفة التشويق، وينسجم مع الشخصيَّات التي رسمها وجيه والحجلي بدقة متناهية وبراعة لافتة، لينسف نظريَّة «المفاضَلة» المزعومة بين الرسالة والمتعة في الدراما، من أساسها، ويؤكد أنَّ الخلل هو في «المباشَرة» في إيصال الرسائل، لا في الرسائل نفسها.

وهكذا أيضاً، يمكن للمُشاهِد اليوم أن يكون أكثر وضوحاً ودقةً في خطابه إلى الكتَّاب: إمَّا أن تطرحوا قضايانا على طريقة «هوا أصفر» بكلّ ما تحمله من «احترام» و»احتراف» وصدق، وإمَّا أن تعودوا مشكورين إلى «غوادالاخارا» و»اسطنبول».

المسلسل الذي أُنتِج في العام 2018 وتأخر عرضه إلى الموسم الحاليّ نتيجة مصاعب تسويقيَّة، يلعب بطولته عدد كبير من النجوم اللبنانيين والسوريين، نذكر منهم: سلاف فواخرجي، يوسف الخال، يامن الحجلي، وائل شرف، يزن خليل، عبد الهادي الصباغ، تيسير إدريس، نادين تحسين بك، حلا رجب، ومهدي فخر الدين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى