الإصلاحات الدستورية في لبنان ضرورة حتى لا تفرض من الخارج

د. رائد المصري

بهدوء… على القوى السياسية المنضوية في الحكومة والمجلس النيابي تدارك الخطر الداهم على الكيان اللبناني نتيجة حالة العقم السياسية المستعصية وانسداد أفق الحلول التي تلوح عند كلّ أزمة سياسية ومفصل وحدث، حيث إنّ فشل هذا النظام الذي ركّب على عجل وتمّت تسوية مواده الدستورية وتوزيع الأدوار بين اللاّعبين ومكوّناته الطائفية والمذهبية لم تترك في المجال مساحة للحوار الدائم، لأنّ طبيعة البنى وآليات التوافق فيه وعليه لا تسمح نتيجة التشقّقات والتصدّعات التي تظهر الى السطح بعد كلّ استحقاق انتخابي أو اللّجوء الى خيارات مرتبطة بالإقليم وبالتسويات الدائرة فيه، لكون لبنان ما زال قاصراً عن الخوض والبحث عن موقعه في ظل التقاتل على الصلاحيات وفي ظلّ الفئوية الطاغية في العمل السياسي وفي إدارة أمور الدولة…

فلا هي معركة صلاحيات تدعو الى الاحتماء خلف الطائفة ودار الإفتاء، ولا هي قضية تحقيق المكاسب لفئة مذهبية على حساب نقيضتها في الدين والوطنية، بل هي أزمة مجتمع بأغلبية وعيه الجمعي الذي غالباً ما يرتكن ويشعر بالاستقرار الاجتماعي بعد تحقيق ودغدغة مشاعره الدينية والطائفية التي يعتبرها ملجأه النهائي والأخير، لأنّه يعتبر وجوده الطائفي والمذهبي والديني سابق على وجوده الوطني وانتمائه للبنان بكلّ مكوّناته السياسية التي يعتبرها حالة مارقة ومرحلية… إنّه جزء من معضلة سياسية اجتماعية طاغية في لبنان تستعصي الحلّ النهائي لمشاكله…

غالباً ما نتحايل على الكلمات والمصطلحات في تحليل واقعي لأزمات لبنان ومشاكله، لأنّ الأساس هو التشخيص الصحيح للمرض ليكون الدواء الفعّال ومن دون ذلك عبثاً كلّ المحاولات، حيث إنّنا نتحدّث ونطرح المبادرات من دون التطرّق الى ضرورة بناء عقد سياسي واجتماعي جديد في لبنان يحفظ حقوق كلّ المواطنين ويسمو فيه تفوّق وسيادة القانون الذي يحمي جميع مكوّناته، ويتمّ التلاعب بالمصطلحات والحديث عن إصلاحات وتعديلات دون المساس بصلاحيات طائفية أو مذهبية لفئة معينة حتى لا تستنفر عصبياتها وتبدأ بالاقتتال في الشوارع وتقويض عمل الأجهزة الأمنية ويصير البلد مسرحاً للأعمال المخلّة بالأمن كما في كلّ مرة يشهده الآمنون من المواطنين الذين يريدون العيش بسلام وطمأنينة، فالواقع يحتم علينا الجرأة في مقاربة الأشياء حتى تتمّ معالجتها بالشكل الصحي والمقاربة الهادئة…

نعم، نحن بحاجة إلى تنظيم عقد سياسي واجتماعي تلغى فيه هيمنة الطوائف والمذاهب وسطوة رجال الدين الحامين للإقطاع السياسي التاريخي القائم منذ مئات السنين، والولوج الى دولة مدنية علمانية حافظة كلّ المكونات والاحتكام الى القانون الحامي للسيادة وللاستقرار ضمن لعبة ديمقراطية تعطي أولوية لوصول نخب وقوى سياسية بشكل متساوٍ الى الندوة البرلمانية مع الحفظ التام لحقوق التمثيل الطائفي والديني كقيمة معنوية لا دخل لها في الحياة السياسية، وهذا أيضاً يريح قيادات هذا الإقطاع السياسي الطائفي الذي لا ينام من همّ التوريث والحفاظ على الامتيازات وبقاء محمياته ومناطقه الجغرافية والعصب المستنفر بجهوزية دائمة من أجل إسالة الدماء… هي حالة مربحة لهؤلاء أكثر لعبء تاريخي مزمن وأثقال دائمة هم بغنى عنها في دولة علمانيّة مدنية تحفظ حقوق الناس كل الناس…

فقبل أن تطرح التسويات الإقليمية وتعيد الدول تموضعها واصطفافاتها فتتنبّه الى الوجهة اللبنانية بطرح تسويات موضعية آنية يضطر اللبنانيون القبول بها عنوة وبالقوة ونلتزم بتطبيقها رغماً عنّا من دون أن يكون لنا الحيلة على رفضها، يجب اللجوء الفوري الى تحقيق هذه الإصلاحات أو بناء عقد سياسي جديد ينطبق على الواقع اللبناني بصيغته الحقيقية ويشبه البناء الاجتماعي لمواطنيه بما يحفظ الحقوق على قاعدة التمثيل الحقيقي بقانون انتخابي عصري نسبي تلغى فيه الطائفية السياسية وتتقدّم حقوق المواطنة على غيرها بحماية وسيادة القانون. وهذا وحده كفيل ببناء دولة وفرصة قد تبدو نهائية لإعادة إنتاج طبقة سياسية ونظام سياسي صنع في لبنان… وإلاّ فعبثاً أية محاولات أو إرجاء وتأجيل لأزمات أو الرهان على تمرير الوقت… فقد نفقد الكثير الكثير مما تبقّى لنا من هذا الكيان.

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى