الكتلة الأوراسية والتحوّل من القطبية المتعدّدة إلى المحورية الشاملة
زياد حافظ
لا نبالغ في تقديرنا أنّ تراجع الغرب بشكل عام والولايات بشكل خاص يتلازم مع صعود الشرق المتمثّل بالكتلة الأوراسية. هذه أصبحت من المسلّمات في المقاربة الجيوسياسية وإنْ كان هناك في الغرب وبين النخب العربية من يستمرّ في التنكّر لذلك. والمفهوم الجيوسياسي للكتلة الأوراسية يعود للعالم الجغرافي الإنكليزي هالفورد ماكيندر 1861-1947 الذي أصدر ربما أهمّ كتاب عرفه العالم عن البعد الجيوسياسي للعلاقات الدولية وذلك سنة 1904. في مؤلّفه «نظرية الأرض الداخلية» Heartland Theory المبنية على مقال أصدره في نفس السنة حول «المحور المتحرّك الجغرافي في التاريخ» جاء فيه انّ السيطرة على العالم لا تقتصر على السيطرة على البحار كما كانت تفعله المملكة المتحدة بل السيطرة على الداخل الآسيوي الأوروبي الذي نعرفه اليوم بالكتلة الأوراسية الممتدة من بحر الصين حتى المحيط الأطلسي. وروسيا كانت وما زالت تاريخياً الدولة الوحيدة في العالم الممتدة فوق القارتين. كان هاجس الإمبراطورية البريطانية آنذاك منع روسيا القيصرية من الوصول إلى المياه الدافئة فكانت محاولة احتلال أفغانستان الفاشلة ما جعلها تكتفي باحتلال الهند وموطن قدم في الصين عبر احتلال هونغ كونغ وإشعال حروب الأفيون لمصلحتها.
وبعد حوالى قرن من صدور كتاب ماكيندر قام العالم البريطاني جون داروين بالتأكيد على تلك النظرية مشيراً إلى أنّ التاريخ شهد نموذجين لتطبيق تلك النظرية: نموذج تيمورلنك المغولي ونموذج الإمبراطورية الأميركية التي من خلال الحرب الباردة عملت بنظرية جورج كينان 1904-2004 في احتواء الاتحاد السوفياتي وفي ما بعد في إبعاد الصين عن الاتحاد السوفياتي. فكلاهما تحكّما بمفاصل «الجزيرة الكبرى» أيّ أوراسيا ومخارجها عند المحيطات. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والحقبة اليلتسينية في روسيا كان همّ الولايات المتحدة منع اندماج روسيا في أوروبا أو المشاركة في الحلف الأطلسي الموسّع الذي ضمّ عدداً من الدول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي رغم «الوعود الشفهية» للرئيس جورج بوش الأب بعدم التقدّم شرقاً تجاه روسيا. تنكّر الرئيس كلينتون لتلك الوعود فكان توسيع الحلف الأطلسي ليصل إلى حدود روسيا. هذا دفع كلّ من روسيا والصين بعد الحرب الباردة للتعاون وفقاً للمؤرّخ الأميركي الفرد ماكوي. طبعاً، من التقى مع تلك النظرية من الجهة الروسية المفكّر القومي الروسي ألكسندر دوغين رافقة انبعاث الشعور القومي وضرورة التصدّي للهيمنة الأميركية ليس من باب التنافس بل من باب البقاء. فالسياسة الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص لا تحترم المواثيق والقوانين وهمّها الوحيد هو السيطرة على العالم وإنْ كان على حساب الشعوب. أيّ بمعنى آخر كلّ من يعترض على الهيمنة يُستهدف لإزالته عن الخارطة.
وبغضّ النظر عن الخلفيات التاريخية والنظرية عن مسار العلاقات الدولية خلال قرن من الزمن فوجوب تلك الكتلة التاريخية لا بدّ من اعتبارها حقيقة واقعة يجب الاهتمام بها. وكافة المؤشرات تفيد بأنّ مستقبل المعمورة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو العسكري أو الأمني أو العلمي سيكون في الشرق الممتدّ من بحر الصين إلى المحيط الأطلسي شمالاً غرباً وإلى شواطئ البحر المتوسط جنوباً غرباً.
ما كان مشروعاً سياسياً عند بعض المفكّرين الروس كألكسندر دوغين تحقّق بسبب ظروف موضوعية وذاتية. فصعود الكتلة الأوراسية تلازم مع التراجع والأفول الغربي لأسباب موضوعية لا داعي للتكلّم عنها في هذه المقاربة فهي كانت موضوع أبحاث ودراسات عديدة. أما الأسباب الذاتية فتعود للقادة في كلّ من الصين وروسيا الذين قيّموا تلك الظروف الموضوعية ودفعوا نحو تشكيل الكتلة. ما يهمّنا هنا هو كيف تترجم الكتلة التاريخية واقعها على الصعيد السياسي والعسكري والأمني والعلمي والثقافي.
الكتلة الأوراسية تشمل بشكل رئيسي الصين وروسيا. فالصين تقدّم طاقتها الاقتصادية العملاقة ويدها العاملة الوافرة ورساميلها وروسيا تقدّم قدراتها العسكرية الكاسرة للتوازن مع المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة إضافة إلى موارد طبيعية ضخمة. وتلك الطاقة العسكرية مرتبطة بطاقة تكنولوجية لا يمكن الاستهانة بها. ويمكن أيضاً إضافة البعد التاريخي في الجغرافيا المشتركة حيث سيبيريا الروسية كانت في الأصل «صينية». وينضمّ إلى تلك الكتلة عدد من الدول كالهند وباكستان وجمهوريات آسيا الوسطى التي كانت في كنف الاتحاد السوفياتي. واليوم نشهد دور الجمهورية الإسلامية في إيران على الصعيد السياسي والجيوستراتيجي عبر منظومة البحار الخمسة التي تشكل فضاء الأمن القومي لمنطقة شرق المتوسط وشمال أفريقيا. هذه البحار هي بحر الأحمر، بحر المتوّسط، البحر الأسود، بحر قزوين والخليج العربي مع بحر عمان. من هنا نفهم مشاركة روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران في صوغ أمن المنطقة، بدءاً بالخليج وصولاً إلى المنظومة العربية والتركية. ويمكن للمنظومة العربية أن تستعيد زمام المبادرة بعد أن تحسم خياراتها وتتجّه شرقاً بدلاً من الغرب الآفل والذي لم يكن في يوم من الأيام حريصاً على الشعب العربي وحضارته.
فما هي المرتكزات للكتلة الأوراسية؟ المرتكز الأول هو الأمن القومي المشترك لكلّ من روسيا والصين. فالولايات المتحدة في بداية الألفية الحالية شعرت بخطورة التقدّم الاقتصادي الصيني فبدأت ترتفع الأصوات ضدّ ذلك «الخطر». نذكر هنا أنّ سنة 2007 زار وفد من خبراء وأكاديميين لبنان حاول ترويج «الخطر الصيني». فالصين كانت تحوّلت إلى أكبر شريك تجاري للبنان قبل الاتحاد الأوروبي وكانت «النصيحة» بمراجعة التنامي التجاري بين لبنان والصين!
الأمن القومي المشترك تجلّى في إنشاء منظّمة شانغهاي للتعاون الأمني والاقتصادي. وما دعم تلك المؤسسة المشروع الاقتصادي الكبير الذي أطلقته الصين وهو مشروع الطريق والحزام الواحد الذي يعيد إحياء طريق الحرير القديمة التي ربطت الصين باليونان قبل العصر الميلادي. وطريق الحرير كان ربّما أول تجلّيات عولمة ضمن تكنولوجيات محدودة جدّا في التواصل والمواصلات إلاّ أنها كانت حقيقة. ومشروع الحزام والطريق الواحد يهدف إلى توثيق الترابط بين الدول على قاعدة الاستفادة للجميع وليس على قاعدة اللعبة الصفرية حيث القوي يفرض شروطه على الأضعف ويخلق عدم التوازن وعدم الاستقرار.
الأمن القومي المشترك لكلّ من روسيا والصين عزّزه السلوك العدائي المتزايد للولايات المتحدة تجاه الدولتين. فالولايات المتحدة لا تسعى إلى نظام دولي متعدّد الأطراف بل إلى نظام خاضع لهيمنتها دون منازع. فهي لا تحترم سيادة الدول ولا تحترم المواثيق الدولية ولا تحترم إلاّ معادلات القوّة الفجّة فقط. كما أنّ الولايات المتحدة تبني سلوكها على قاعدة اللعبة الصفرية بينما كلّ من الصين وروسيا تبنيان سلوكهما على قاعدة الربح المتبادل. فالقاعدة الصفرية تعتبر أنّ ربح طرف هو خسارة للطرف الآخر بينما القاعدة الأخرى تعتبر أنّ جميع الأطراف يحقّ لها الربح. من هنا نفهم تمسّك كلّ من روسيا والصين بالمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن وما يشكّل القانون الدولي والشرعية الدولية بينما الولايات المتحدة لا تعطي أيّ قيمة لكلّ ذلك على قاعدة أنّ تلك المؤسسات تقيّد من حرّية التحرّك الأميركي وأنّ القانون الدولي هو فقط ما تقوله هي ولا أحد غيرها. ومستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون له مقولة شهيرة حيث اعتبر عندما كان سفيراً للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة أنه لو تمّ تدمير عشر طوابق من مبنى مركز الأمم المتحدة لما تغيّر شيئاً. احتقاره لتلك المؤسسة يعكس مزاجاً موجوداً عند بعض النخب الحاكمة في الولايات المتحدة رغم ادّعاءاتها بعكس ذلك.
الولايات المتحدة تتهم روسيا والصين بما تقوم به هي، أيّ السعي لفرض هيمنتها على كافة الشعوب في العالم. وبسبب ذلك تقوم بسباق تسليحي لا مثال له في تاريخ الإنسانية. فموازنة سنة 2020 المرتقبة تلحظ أنّ موازنة الدفاع المقترحة لعام 2020 ستصل إلى 1.84 تريليون دولار أيّ أكثر من ضعف الموازنة المرصودة لعام 2019. هذا يعني أنّ سياسة التسليح والتأهيل العسكري الأميركي ليس للدفاع بل لفرض السيطرة بالقوة إذا لزم الأمر بعد فشل دبلوماسيتها بتحقيق ذلك. في المقابل فإنّ سياسة كلّ من روسيا والصين هي للدفاع عن سيادة كلّ منها بعد التهديد الصريح الأميركي لها والأعمال العدوانية ضدّها كالحروب التجارية والعقوبات الاقتصادية. انعكاس ذلك الموقف على المستقبل واضح. الولايات المتحدة تهرول نحو الإفلاس في التسليح لتحقيق سياسة مبنية على الأوهام بينما روسيا والصين تسعيان إلى تطوير الكمّي والنوعي لسلاحها الدفاعي بأقلّ كلفة ممكنة. والنتائج بدأت تظهر. فعدد من الخبراء العسكريين الأميركيين يعتبرون السلاح الروسي متفوّق على السلاح الأميركي وبكلفة جزئية من الكلفة الأميركية وأنّ التفوّق التكنولوجي العسكري لروسيا يسبق الولايات المتحدة بعشرة سنوات على الأقلّ وفقاً لهؤلاء الخبراء.
لذلك لن تدخل روسيا والصين في سباق مجنون وعبثي في التسلّح. كان الرئيس الروسي واضحاً في خطاب له في كانون الأول 2017 عندما قال إنّ روسيا لن تكون شرطي العالم ولن تدخل في سباق تسليح مع الولايات المتحدة. قاعدة السياسة الدفاعية الروسية هي الذكاء، والعقل، والانضباط، والتنظيم» وليست سباق التسليح الذي سيؤدّي إلى إفلاس روسيا. وكذلك الأمر ينطبق على الصين التي تريد حماية دولتها ونفوذها في البلاد المجاورة مباشرة دون فرض سياساتها. يتضح ذلك عندما نرى دولاً حليفة للولايات المتحدة أصبحت تأخذ بعين الاعتبار مصالح الصين في المحيط المباشر وإنْ أدّى ذلك إلى تصادم مع الولايات المتحدة، مثلاً بالنسبة لحزب العمل الأسترالي الذي يتناوب على السلطة مع غريمه الحزب المحافظ. وكذلك الأمر بالنسبة لدولة صغيرة الحجم بل كبيرة الدور في الاقتصاد كماليزيا، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. أما الفيليبين فأعلنت بصراحة أنها لن تسمح للولايات المتحدة بنشر صواريخ نووية متوسطة المدى تستهدف كلّ من الصين وروسيا.
سياسة روسيا والصين هي لمدّ اليد لجميع الدول في آسيا وللدول الأفريقية وأميركا اللاتينية في مواجهة سياسة غربية، أوروبية وأميركية، ما زالت تعيش في وهم زمن الهيمنة الغربية والامبراطوريات البائسة أمس والبائدة اليوم. روسيا والصين تعملان على توثيق العلاقة الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية كلّ يوم. لذلك لم يكن مفاجئاً أن تقوم كلّ من روسيا والصين بدوريات عسكرية مشتركة بدءاً من 23 تموز 2019 في شرق آسيا حيث تريد الولايات المتحدة فرض الحصار على الصين. وليس من المستغرب أن تُنشئ كلّ من الصين وروسيا صندوقاً مشتركاً بقيمة 450 مليار دولار للتطوير الأسلحة! وليست مفاجأة أن تعمل كلّ من الصين وروسيا للتخفيف من هيمنة الدولار عبر اللجوء إلى العملات الوطنية في التبادل التجاري بينهما وإلى المتاجرة مع دول غير الولايات المتحدة. فروسيا خلال السنوات الخمس الماضية زادت من تجارتها مع الاتحاد الأوروبي وأصبح اليورو العملة التي ترتكز إليها روسيا في تجارتها الخارجية. أما الصين ففتحت أسواقها لدول آسيا للاستثمار في أسواقها إضافة للتبادل التجاري وذلك بالعملات الوطنية لكلّ منها بدلاً من الدولار. وروسيا والصين تعملان على إيجاد نظام مالي دولي بعيداً عن الدولار وخلق شبكة مؤسسات دولية توازي مؤسسات بريتون وودز التي تدير النظام المالي الدولي.
الملاحظة الأساسية في كلّ ذلك أنّ القدرة الذاتية لكلّ من روسيا والصين تعزّزت بالتشبيك المعمّق بينهما. فكلّ من روسيا تكتسب قيمة مضافة مما يفرزه المحور الذي تشكّلانه، كما أنّ المحور يتعزّز بدوره بالقيمة المضافة التي تقدّمها الدولتين المتشابكتين بسبب زيادة قدراتهما الذاتية. وهنا يكمن التطوّر الأساسي في النظام الدولي الجديد حيث القدرات الذاتية لكلّ دولة عملاقة تتزايد بعضويتها في محور ما بدلاً من أن تكون خارجة عن التفاعل مع حلفائها. أيّ بمعنى آخر لم يعد دقيقاً الكلام عن عالم متعدّد القطبية بمقدار عن عالم متعدّد المحاور. فتظافر العولمة مع التشبيك يلغي القطبية ويفرز المحورية في العلاقات الدولية حيث نظرية الأواني المتصلة هي التي تستطيع وصف حركة الدول ومختلف القضايا. فما يحصل في ملفّ ما في دولة ما يؤثر بالدول التي أصبحت ضمن المحور الذي تنتمي إليه. هذا ما يجعل قراءة التطوّرات واستشراف المستقبل عملية معقّدة ومركّبة تفرض بطبيعتها الخروج من إطار اللحظة التي تشكّلها الأحداث المتتالية. فهناك ضرورة مستمرّة ومتعاظمة للنظر إلى اللوحة بكاملها وتحرّك مكوّناتها بدلاً من مقاربة الملفّات بمعزل عن بعضها البعض. فعبر هذه النظرة يمكن فهم سلوك الدول وخاصة سياسات كلّ من الصين وروسيا في مختلف القضايا بشكل عام وبقضايا المنطقة بشكل خاص.
كاتب وباحث اقتصادي وسياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي