لا فرق بين صهيونية اليهود القدامى وصهيونية اليهود الحاليين
وجدي المصري
قرأت للصحافي الأستاذ طلال سلمان مقالاً بعنوان: «أطفال النصر في العيسوية القدس يواجهون إسرائيل وعرب الهزيمة»، وهو مقال يعطي الطفل الفلسطيني المقاوم حقّه من الإجلال والإحترام اللذين يعرّيان عرب الهزيمة والخنوع والذل. ولكن لفتني مقطع تمنيت أن لا يكون الكاتب قد أورده لما فيه من مغالطات دينيّة وتاريخيّة جعلتني استغرب وقوع كاتب كطلال سلمان في فخّها.
وللأمانة والموضوعيّة سأنقل هذا المقطع بحرفيّته كما ورد في المقال ومن ثمّ انتقل لإلقاء الضوء والمناقشة. يقول الكاتب: «وبعد الصليب والهلال جاء الإسرائيليون تحت رايتهم الّتي تحمل النجمة السداسية، يطالبون بأرض موسى وداود وسليمان الحكيم الّذين يجلّهم الدين الإسلامي، كما الدين المسيحي لأنّهم كانوا يهوداً ولكنّهم لم يكونوا صهاينة ولم يكونوا بالتالي مستعمرين وغزاة يحاربون تحت راية الحق التاريخيّ ليُخرجوا أهل الأرض من أرضهم الّتي كانت دائماً أرضهم، أيام الأنبياء موسى وعيسى المسيح وصولاً إلى عمر بن الخطاب الّذي رفض أن يُصلّي في الكنيسة حتى لا يأخذها المسلمون بذريعة «هنا صلّى عمر».
بداية لا بدّ أن أشير إلى أنّ النجمة السداسية ليست ذات أصول يهوديّة، بل هي نتاج التراث السوري القديم وهي سابقة بآلاف السنين لظهور اليهود إلى الوجود. ومن السهل في هذه الأيام التأكّد من صحة ما أقول وذلك باللجوء إلى موقع غوغل المليء بالمقالات والدراسات الّتي تؤكّد أنّ هذا الشعار أقدم بكثير من الديانة اليهوديّة، وسأقتبس من موقع «قصّة الأديان» بضعة أسطر لإظهار هذه الحقيقة. يذكر الموقع بأنّ «النجمة السداسية والمعروفة بين علماء الآثار بنجمة عشتار بدأت قرص شمس ورمز عبادة عند السومريين ثمّ البابليين وقد وجدت في معظم الحضارات التي تلتها، فنراها عند الكنعانيين/ الفينيقيين في أوغاريت فهي كانت عندهم نجمة الصباح/ كوكب الزهرة وكذلك عند الآراميين والمصريين. بالنسبة لتاريخنا هي من أكثر الرموز التراثيّة السورية فلسفة وروحانية، فهي مؤلّفة من مثلّثين متقاطعين: مثلث قاعدته في الأعلى وذروته أو رأسه تتجه إلى الأسفل وهو يمثّل السعي الإلهي للحلول في البشر، ومثلّث قاعدته في الأسفل وذروته تتجه إلى الأعلى وهو يمثّل السعي البشري للفناء في الإلهي…»
وبما أنّ العبرانيين تواجدوا في أرض كنعان في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، حسب قصص العهد القديم، فقد اطّلعوا على حضارة الشعوب القديمة وأخذوا منها، لكنّهم مسخوا مفاهيمها الإنسانيّة. فكثر من الدارسين اليوم يؤكّدون أنّ الإله يهوه هو إله كنعاني ولم يكن شرساً عند الكنعانيين كما نراه في النصوص التوراتيّة. والعملة المستعملة اليوم في الأراضي المحتلّة، أيّ الشاقل، ليست عملة عبريّة أو يهوديّة، بل هي عملة بابلية كانت مستعملة أيام الملك حمورابي وقبله. وكما اخترع الكاهن عزراً مسألة الوعد الإلهي ومنح يهوه إبراهيم وذريّته حق قتل كلّ شعوب كنعان وإقامة مملكتهم في هذه الأرض، كذلك سرقوا شعار النجمة، وأعادوا التداول بعملة الشاقل لكي يقنعوا العالم أنّهم أصحاب حضارة قديمة قدّمت للبشرية الدين التوحيديّ الأوّل الّذي أنتج رمز النجمة السداسيّة والشمعدان السباعي وعملة الشاقل، وكلّ هذا ليس سوى تزوير للحقائق التاريخيّة والحضاريّة الإنسانيّة.
أمّا قول الكاتب بأنّ الدينين المسيحي والإسلامي يجلّان اليهود القدامى لأنّهم «لم يكونوا صهاينة ولم يكونوا بالتالي مستعمرين وغزاة»، فهذا منافٍ لما ورد في توراتهم. نقرأ من سفر التكوين ما يلي: «واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة. وكان الكنعانيون حينئذٍ في الأرض. وظهر الربّ يهوه لأبرام وقال لنسلِك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات… القينيين والقنزيين والقدمونيين والحثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين». فهذا الإله يعرف أنّ أرض كنعان كانت مأهولة من كلّ هذه الشعوب، فكيف يطلب هذا الإله من شعبه الخاص، أيّ العبرانيين، أن يُبيد هذه الشعوب ويسكن في أرضها؟ وماذا يعني ذلك غير الغزو والإستعمار والإرهاب؟ وأيّ إله بربري هذا الّذي يبلّغ النبي موسى، الّذي يُجلّه المسيحيون والمسلمون، بأنّ «ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين فأبيدهم…» فما هو سبب اتّخاذ هذا الإله قراراً بإبادة هذه الشعوب كلّها إلّا كونه إله حرب قبلي لا علاقة له بالإلوهيّة الحقيقيّة. وماذا يمكن أن نسمّي فعل الإبادة الّذي قام به ملاكه قبل هتلر بثلاثة آلاف سنة؟ طبعاً أنا مقتنع، كما معظم الباحثين الموضوعيين أنّ شيئاً من هذا لم يحدث، والله الحقيقي لم يخاطب لا إبراهيم، ولا يعقوب، ولا موسى، ولا يشوع ولا من أتى بعدهم، بل هو الإله الّذي اخترعه الكاهن عزرا هو من فعل ذلك، وعزرا هو من اخترع الشعب اليهوديّ واختلق مملكة إسرائيل القديمة كما يقول شلومو ساند في كتابيه إختراع الشعب اليهودي – اختراع أرض إسرائيل . إذن العبرانيون القدماء كانوا قبائل تعيش على الغزو والقتل والتدمير واخترع لهم كهنتهم إلهاً قبليّاً يساعدهم في غزواتهم للإنتصار على من سموّهم «أعداء».
وأمّا قول الكاتب بأنّهم لم يحاربوا تحت راية الحق التاريخيّ ليُخرجوا أهل الأرض من أرضهم الّتي كانت دائماً أرضهم… ففيه أيضاً جهل للحقيقة التاريخيّة، لأنّ العبرانيين حاربوا، ليس فقط تحت راية الحق التاريخيّ، وإنّما أيضاً تحت راية الحق الإلهي الّذي استعانوا به في العصر الحديث للسيطرة على فلسطين. وها هم بعض المسؤولين العرب، وزير خارجية البحرين على سبيل المثال وبعض الإعلاميين السعوديين، يردّدون كالببغاء، ودون إعمال العقل، بـ «أنّ لليهود حقاً إلهيّاً بفلسطين». إنّ اليهود قديماً وحديثاً، وبناء على أوامر إلههم يهوه ووعده لهم بأرض كنعان، عملوا على تهجير السكان ومحاولة إبادتهم وإقامة دولتهم على أرض الآخرين مستغلين بعض الأقوال ذات الطابع الماورائيّ اللاهوتيّ، وما زالوا لغاية اليوم يمارسون الأفعال الإرهابيّة ذاتها. وهم لن يكتفوا بأرض فلسطين لأنّ إلههم يهوه قال لهم يوماً، أو قوّله عزرا الكاهن بأنّ يكفّوا عن «القعود في هذا الجبل. تحوّلوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكلّ ما يليه من العَرَبة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات». وهم لم يتخلّوا عن هذا الحلم باعتباره وعداً إلهيّاً، ومن يتراجع عن السعي لتحقيقه فإنّما يعمل ضدّ إرادة «الله».
اليهود القدماء كانوا أكثر صهيونيّة من يهود اليوم، وإلههم يهوه هو الصهيونيّ الأوّل وليس هرتزل إذا ما عرّفنا الصهيونيّة بأنّها حركة تسعى إلى إعادة اليهود إلى «أرض الميعاد» وإقامة دولة «إسرائيل» الحديثة بدلاً من المملكة القديمة. والدليل على ذلك نستخلصه من النصوص التوراتيّة الّتي كتبها عزرا الكاهن باسم الإله يهوه وعلى لسان موسى. نقرأ من سفر التثنية الإصحاح السابع ما يلي: «متى أتى بك الربّ يهوه إلهك إلى الأرض الّتي أنت داخل إليها المقصود بني إسرائيل لتمتلكها وطرد شعوب كثيرة من أمامك الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين سبع شعوب أكثر وأعظم منك ودفعهم الربّ يهوه إلهك أمامك وضربتهم فإنّك تحرمهم أيّ تقتلهم جميعاً . لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم ولا تعاهدهم».
إذن إله بني إسرائيل تكفّل بطرد الشعوب السبعة، وهم شعب واحد ولكن قبائل متعدّدة، من أمام شعبه الخاص، فهل يمكن أنّ هذا الإله هو الله الّذي يعبده جميع البشر؟ وهل يُعقل للخالق الّذي نعرفه من خلال المسيحيّة والإسلام بأنّه العادل، المحب، الغفور والرحيم بأن يُبيد هذه الشعوب كُرمى لعيون قبائل بربريّة همجيّة اختارها أن تكون شعبه الخاص؟ ألا يُعدّ هذا الإله المشجع الأوّل على العنصريّة والتمييز؟ وما هو مضمون الصهيونيّة غير ذلك؟ وماذا فعلت الصهيونيّة الحديثة غير التقيّد بتعاليم هذا الإله؟ لماذا لا يسعى الإسرائيليون إلى السلام بالرغم من أنّ معظم الدول العربيّة أحنت لهم الرقاب، وقدّمت لهم التنازلات، لدرجة الموافقة على «شرعية» الإحتلال؟ لأنّ النص الآنف واضح لجهة أوامر يهوه القاضيّة بعدم إبرام العهود مع سكان أرض كنعان وفلسطين منها . الصهيونيّة الّتي يحاول البعض ان يحصرها بالشأن السياسيّ قامت على المفاهيم الدينيّة التوراتيّة وما تزال تعمل على تحقيق الوعد الإلهيّ التوراتيّ. وهذا يعني أنّ الصهيونيّة وُجدت مع وجود هذه النصوص الّتي لا قيمة لها إلّا بالمفهوم اللاهوتي.
وإذا ما أردت الإسهاب بإعطاء الأمثلة لضاقت الصفحات، ولا بأس أن أشير في النهاية إلى أنّ مصطلح مخرّب» الّذي أطلقته الصهيونيّة على المقاومين من شعبنا استقته من التوراة نفسها. نقرأ من سفر صموئيل الأوّل الإصحاح الثالث عشر ما يلي: «وكان شاول ويوناثان ابنه والشعب الموجود معهما مقيمين في جبع بنيامين والفلسطينيون نزلوا في مخامس. فخرج المخرّبون من محلة الفلسطينيين في ثلاث فرق…»
التوراة هي المرجع الفكريّ الأيديولوجي للصهيونيّة، ولا مجال للتمييز بين صهاينة اليوم وصهاينة الأمس البعيد. فالوصايا ذاتها، والممارسة ذاتها، ولن يكون حلّ لهذه المسألة إلّا بانتصار أمتنا على هذا المشروع الإستعماريّ القديم الحديث الّذي غزا بلادنا على أجنحة الأوامر الإلهيّة اليهوهيّة الّتي لا تمتّ إلى الألوهيّة الإنسانيّة بأيّة صلة، ولقد آن الأوان أن تعي أمّتنا هذه الحقيقة وأن تعمل على إقناع كلّ المؤمنين في العالم بأنّ الوعد الإلهيّ الوارد في العهد القديم يخصّ فقط بني إسرائيل، ولا يلزم أيّ شعب آخر، ولا أيّ دين آخر.