شعر الومضة.. حقيقة ما بعد التّخيّل

أمين الذّيب ولارا ملّاك

المفردة، أي الكلمة المؤلّفة من أصواتٍ، وتقع في صيغةٍ صرفيّةٍ معيّنةٍ، هي تركيبٌ يؤدّي معنًى. والإفراد فيها يعني أنّها تتمتّع بدلالةٍ خاصّةٍ بها، بغضّ النّظر عن علاقتها بغيرها من المفردات، فهي وحدةٌ دلاليّةٌ قائمةٌ تشير إلى مدلولٍ معيّن. وتدخل المفردة ضمن السّياق اللّغويّ، كي تؤدّي وظيفتها التّعبيريّة بناءً على ما يجاورها من كلماتٍ وألفاظ.

والشّعر، هو فنّ تشكيل المفردات بما يُعيد خلق العلاقات بينها بصورةٍ غير تقليديّةٍ أي جديدة، وصولًا إلى تحقيق الدّهشة الّتي تجعل من الكلام فنًّا.

ولأنّ الدّهشة المتجدّدة هي عمل الشّاعر الأصيل، فلم يتوقّف الأسلوب الشّعريّ عن التّجدّد والتّغيير على مرّ العصور منذ بداية الشّعر. وفي كلّ مرحلةٍ عرف النّصّ الشّعريّ مجدّدين ثوريّين رفضوا الرّكون إلى ما هو مستتبٌّ ونهائيّ.

لذلك يأتي الأدب الوجيز في عصرنا، أدبًا جديدًا من حيث الشّكل، ومن حيث المضمون. فالإيجاز في النّصّ الشّعريّ لا بدّ أن يفضي إلى إعادة خلق العلاقات بين أجزاء الجملة الواحدة بما يتيح للشّاعر اختراق اللّغة، واختراق غوامضها نحو إعادة تشكيلها. ونعني بذلك إعادة تحديد الرّبط بين الوحدات اللّغويّة، وإعادة تحديد علاقاتها بما لم نألفه سابقًا في النّصّ. وكيف الحديث عن جماليّةٍ أدبيّةٍ من دون الكلام على تخطّي جميع ما سبق أن قدّمه الشّعراء من صورٍ وأساليب سابقة؟

في الواقع يرى ملتقى الأدب الوجيز بمؤسّسه وأعضائه أنّ التّجديد ضرورةٌ ملحّةٌ في مجتمعنا، وتبدأ الجدّة حكمًا من النّصّ. وقد انبثق الأدب الوجيز حاجةً عفويّةً في الحركة الأدبيّة لدى العرب، حيث برزت القصّة القصيرة جدًّا وشعر الومضة.

ومن أجل ذلك كلّه، وجد الملتقى من الضّروريّ إقامة الحوار الّذي قد يسهم شيئًا فشيئًا في تثبيت فهم هذا الأدب الجديد والوعي به وبخاصيّته وعناصره وطبيعته. إضافةً إلى تشكيل الحوار في ذاته سبيلًا نحو الارتقاء بالنّصّ الأدبيّ، ونحو ابتكار نقدٍ يجاري النّصّ العربيّ ويجيد استنباط كوامن الجمال فيه.

طيلة مراحل عمل الملتقى، أي أثناء التّحضير للأمسيات الأدبيّة / النّقديّة، وخلالها وأثناء تقييمها، وعند كتابة المقالات النّقديّة، ازداد الإصرار على تعميق البحث في هذا الإيجاز اللّغويّ الّذي يشهده النّصّ العربيّ، والبحث في فلسفته ومنطلقاته.

وقد جرى التّطرّق، لهذا الهدف، إلى مسائل مرتبطةٍ بالعمق بهذه القضايا، ومنها مسألة التّجديد، وتجاوز السّائد، وفلسفة الإيجاز، وخصائص الأدب الوجيز وتقنيّاته، من الكثافة وصولًا إلى التّبدّل الإيقاعيّ، واستشراف المستقبل من خلال النّصّ.

ولم نجد ما بحثنا فيه منقطعًا عن الفلسفات السّابقة، أو النّظريّات الّتي سبق أن طرحها النقّاد، غير أنّ الأدب الوجيز ومن دون شكّ، هو تجاوزٌ لها.

ولعلّ أكثر ما يلفت في الطّروحات القديمة، تناول موضوع التّكثيف، ليس في الأدب فحسب. فقد تناول مثلًا أرسطو هذا المصطلح في كتابه «السّماع الطّبيعيّ»، وقد شرح ظاهرة التّكاثف فيزيائيًّا، ليقول إنّ التّكاثف يحدث بين الأشياء، بفعل انجذابها نحو بعضها وانضغاطها. والانضغاط هنا، يعني، كما شرح، أنّ هذه الأشياء لا تنصهر ولا تندمج في ذاتها، لكنّها تُضغَط بمحاذاة بعضها أي تتلاصق، ممّا يدلّ على فراغٍ بينها، ويدلّ ذلك أيضًا على إمكانيّة إعادة تفكيكها أو فصل عناصرها المتراصّة. وما شرحه فيلسوفنا هنا ينطبق على نصّ الومضة، حيث تُضغط الجملة وتتقلّص حجمًا، وتلتصق المعاني التصاقًا، فتكون العودة من بساطة طرح المعاني كما هي، إلى حصر معانٍ كثيرةٍ ضمن الكلمات المتقلّصة كمًّا. ويفتح هذا القول المجال للإشارة إلى دور القارئ في إعادة تفكيك العناصر المكثّفة، حتّى تظهر معانٍ كثيرةٌ.

ويُحيلنا هذا إلى رأيٍ طرحه أرسطو ليس في الفيزياء الطّبيعيّة، إنّما في الشّعر في كتابه «فنّ الشّعر». وقد تناول مسألة «الخلق من جديد»، ليشير إلى قدرة الشّعر على إعادة خلق المعنى، وهي مسألة طرحها أيضًا أفلاطون وغيره من الفلاسفة والمفكّرين.

وإعادة الخلق من خلال الشّعر، هي تحقيقٌ للشّعريّة من دون شكّ. ولعلّ شعر الومضة هو الأقدر على فتح المجال أمام القارئ على إعادة الخلق، أي خلق الدّلالات المستجدّة في ذهن المرء. فنصّ الومضة لا يأتي بمباشرةٍ واضحة، كما لا يطرح النّصّ جاهزًا للتلقّي، إنّما تلتفّ المعاني وتتداخل حتّى لا تبان الحدود الفاصلة بين الصّورة والصّورة، ممّا يترك النّصّ للاحتماليّة. غير أنّ هذه الاحتماليّة الّتي لا بدّ من إعمال المخيّلة حتّى تتبدّى، لا تأتي مجرّد تجريدٍ هدفه الخيال فقط، أو سرياليًّا هدفه أن يتخطّى الواقع فحسب، كما لا يحقّق الجماليّة لذاتها ويقف عندها، كما هي الحال عند المؤمنين بمذهب الفنّ للفنّ. بل يأتي نصّ الومضة ليبني حقيقةً عقليّةً تتخطّى الخيال، وتتجاوزه، وهو ما يجعل الشّعر عملًا عقليًّا، وإن كانت العاطفة أحد عناصره. ولا يغيب هذا الأمر عن نصوص الومضة الّتي ينتجها أعضاء الملتقى، حيث لاحظنا كيف ينحو النّصّ هذا المنحى من دون سابق تصميم.

وفي الواقع، بعد نقاشاتٍ وأبحاثٍ إمّا فرديّةٍ أو جماعيّة، توصّلت الشّاعرة لارا ملّاك إلى التّنبّه إلى تمحور الومضة حول البحث عن الحقيقة الّتي تأتي ما بعد عمل الخيال. ونتيجة هذا العمل، ابتكرت ملّاك مصطلح « Apr s fiction « أو ما يمكن تسميته بالعربيّة «ما بعد التّخيّل». فنصّ الومضة يتيح للقارئ بناء واقعٍ، يمكن الجزم أنّه يتجلّى ما بعد واقع النّصّ. ويحدث بناء هذا الواقع بعد قراءة النّصّ بعمق، وتفكيكه وإعادة تركيب احتمالاته الدّلاليّة.

ونذكر على سبيل المثال، نصّ ومضة لأمين الذّيب الّذي يقول:

«حديقةٌ مركونةٌ في الوقت..

شجرة ليمون

تشتهي أصابعي

بصمتٍ مريب»

يُظهر النّصّ في بنيته الظّاهرة علاقةً غير اعتياديّةٍ بين اللّيمون وقاطفه. في الظّاهر، قد نقول إنّ الصّورة تنحصر في كون اللّيمون يشتهي ويصمت، ليكون الحديث هنا عن صورةٍ بيانيّةٍ هي الاستعارة. وقد نقول إنّ الجماليّة هنا بارزة ونكتفي بها، غير أنّ النّظر أعمق، يأخذنا نحو واقعٍ، هو ما بعد هذا التّخيّل الّذي توصّلنا إليه. وهذا الواقع هو حقيقة ما بعد الصّمت في هذا الكون، وهو صمتٌ ظهر هنا في اللّيمون المستند إلى شجرته ساكتًا. والثّمار ساكتةٌ دائمًا، لكنّ الطّبيعة في حقيقتها متحرّكةٌ لا تركن إلى سكوت. وما يدلّ على ذلك أيضًا، أنّ الحديقة مركونةٌ في الوقت، والوقت هو مسرح الحركة الّتي تبتكرها الطّبيعة كلّ لحظة.

أمّا لارا ملّاك فتقول في إحدى ومضاتها:

«للفُرجة سطوة انفرادها

نقطةٌ لا يقوى

على إفراغها جدار»

إنّ النّظر نظرةً أفقيّةً إلى النّصّ، قد يجعلنا نتلمّس الصّورة الإبداعيّة، وهي المفارقة بين الفُرجة، أي الفتحة البارزة في الجدار، أو ما يمكن القول إنّه الجزء الفارغ من الحائط، والجدار بما يعنيه من موادّ صنعته. غير أنّ الانتقال إلى ما بعد تخيّل هذه المفارقة، يجعلنا نقيم واقعًا حقيقيًا، هو العلاقة الجدليّة بين الوجود وانعدامه، أي بين المادّة الّتي صُنع منها الجدار، أيًّا كانت، والفراغ الّذي يعني غياب هذه المادّة في مكانٍ معيّن. والبحث في وجود الأشياء وغيابها، بحثٌ استوقف علماء كثيرين منذ القديم، حيث لم تغب مسألة الفراغ عن الفلسفات القديمة والحديثة، ومنهم مَن رفض الاعتراف بفكرة الفراغ، ومنهم أرسطو، وغيره قالوا بها. إذًا قد نقول، إن الفرجة خاليةٌ من الجدار، بينما ما تبقّى من الجدار، يفرغ من الفُرَج، فيكون الاختلاف بارزًا بين طبيعتين متناقضتين في حيّزٍ ضيّق، وقد ينطبق ذلك على قواعد وجود الأشياء.

هكذا يبني الشّعر الحقيقة الّتي تتّخذ من الخيال أداةً لها. ولعلّ شعر الومضة إذًا شعر التّكثيف، والخيال والحقيقة معًا.

مؤسّس ملتقى الأدب الوجيز

عضو في ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى