شعر الومضة وإمكان القول الشّعريّ بالعربيّة

د. باسل الزين

يجري الخلط في عالمنا العربيّ بين مفهومي الخلاف والاختلاف. وهذان المفهومان على تقاربهما اللفظي يعبّران عن مسارين متباينين في النظر إلى الأمور، بخاصّة إذا تعلّق الأمر بالشأن الثّقافي والفكريّ والأدبيّ والفلسفيّ. من هنا، نرى أنّ تكريس ثقافة الاختلاف أمر لا مندوحة عنه من أجل تعميق سبل الحوار وتفعيل آليات النقد والتصويب. من هذا المنطلق، يحترم ملتقى الأدب الوجيز حق الآخر في الاختلاف بل يدعو إليه ويحتكم إلى لغته لأنّه يرى إليه أسًا متينًا تنبني عليه عمارات من التصوّرات والأحكام تتفاعل في ما بينها وتنتج أبعادًا رؤيويّة تعزّز عمليّة التّثاقف وتفسح في المجال أمام الاطلاع على الغنى المفهوميّ الذي ينجم عن النقاشات الجدّية والعميقة والرصينة. وفي هذا السياق، سنحاول في هذه المقالة أن نناقش رأي قامة شعريّة رفيعة من لبنان بنت أحكامها انطلاقًا من ثقافة موسوعيّة عريضة وخبرة شعريّة واسعة ورؤية نقديّة عميقة.

يقول شاعرنا: قصيدة النثر أحد أغلاط الطبيعة لأنّ الأصل هو الإيقاع المتّصل موسيقيًا بالوزن… كان فيكتور هيغو متربعًا على عرش الكلاسيكية وأحسّ اهتزازًا في كرسيه فكتب متأسفًا أن يلقي بالنظم النبيل إلى كلاب النثر السوداء… لكن للأسف لم يمنع هذه الكلاب أن تعوي في جميع أنحاء العالم حتى اليوم . وعليه، سنحاول أن نحلّل عناصر هذا الخطاب بلغة حواريّة استفهاميّة لنمرّ من بعدها إلى طرح مقاربتنا النقديّة الخاصّة.

ترى القامة الشّعريّة تلك أنّ الأصل هو الإيقاع المتصل موسيقيًا بالوزن. وعليه، نسمح لأنفسنا أن نطرح جملة تساؤلات: أيّ نزوع هذا نحو تقديس الأصول؟ مَن افترع هذا الأصل؟ وهل ينبغي لنا التّمسّك بالأصول من بعد أن نتفحّص هشاشتها ونثبت بالدليل القاطع ضعف حججها ووهن بيّناتها؟ حقيقة الأمر أنّ القامة الشّعرية المذكورة هي التي سارعت إلى تكريس شاعرية مجموعة من قصائد النثر في ضرب من الاعتراف الضمنيّ بأنّ الإيقاع لا يتّصل اتصالاً طبيعيًا بالوزن والقافية. بعبارة أخرى، إذا كان الأصل هو المعيار، فكيف أجاز شاعرنا لنفسه الاعتراف بشعريّة نصوص خرجت على الأصل ونفته جملة وتفصيلاً؟ لكن كون هذه القصيدة خطأ من أخطاء الطبيعة لا ينفي عنها إمكانيّة الجمال… وربما كانت خطأ جميلًا تبعًا للنص . إنّ الإصرار على نعت القصيدة بالخطأ الطّبيعيّ على الرغم من الاعتراف بشاعريتها هي مصادرة على المطلوب وتخريج غير موفق للطرح الأوّلي المتعلّق بإيقاع الوزن والقافية.

وفي السياق عينه، اعتبر أحد النّقاد اللبنانيين أنّ مشروع الحداثة برمّته هو مشروع فاشل، سنده في ذلك أنّ جميع محاولات التجديد لا تعدو كونها فرارًا من الوزن والقافية نتيجة العجز عن النظم في حدودها.

من هذا المنظور، نسمح لأنفسنا أن نطرح النقاط الآتية:

أوّلًا: إذا كان تجريد القصيدة العموديّة من إيقاع الوزن والقافية قد سمح لمجموعة كبيرة من المتطفلين على الأدب والشعر أن يطرحوا نصوصًا لا تمثّل أيّ قيمة أدبيّة، فهذا لا يعني على الإطلاق أنّ القصيدة العمودية لم تنجب شعراء لا يمتّون إلى الشّعر بصلة. ألم تُنظم ألوف القصائد الفارغة إيقاعًا ومضمونًا؟ ماذا نقول في القصائد المنبريّة وقصائد المدح والرثاء وما لفّ لفّهما؟

ثانيًا: ما المقصود تحديدًا بالأصل؟ أليس الشعر محاولة لكسر الأصول والخروج عليها؟ وبتعبير أوضح، ألا تشكّل الكلمات في ذاتها ولذاتها بؤر إمكان موسيقيّ وطاقات إيقاعيّة لا تنضب؟ هل يغدو الوزن هو المعيار الوحيد لتحديد إيقاعيّة النص وموسيقاه؟ ألا يجري تمييز النص الشعري من النص النثري انطلاقًا من البنية التركيبيّة الترادفيّة للكلمات وما تنطوي عليه من طاقات إيحائيّة إيقاعيّة توليديّة؟

ثالثًا: هل يحقّ لنا اختزال المشروع الحداثويّ بما انطوى عليه من حصاد معرفيّ وتأمّل فكريّ وإرهاصات فلسفيّة بمجرّد العجز عن النظم في حدود الوزن والقافية؟ وفي السياق عينه، هل يمكن القياس على القول السابق والادعاء أنّ تجارب الحداثة الغربية بدورها هي نتاج عجز وخور؟ بعبارة أخرى، هل يجوز نسف تجارب هسهسة النص ولذة النص لرولان بارت، والانتظار والنسيان لبلانشو وجدلية الخفاء والتجلي لكمال بو ديب… في خانة التنظير الفارغ؟

الواقع أنّ التجارب المنبثقة من رحم السؤال هي تجارب محكومة بانهمامات معرفيّة تتساوق تساوقًا مطلقًا مع الانهمام بمسألة الشكل. وبلغة حازمة نقول: لا يمكن فصل البعد الشكلي عن البعد المضموني. وإذا ما اعترض معترض: لِمَ لا يجري التعبير عن التجارب الوجودية والإنسانية من رحم المجتمع والنظرة إلى الإنسان بقالب تقليدي؟ أمكن لنا أن نجيب من فورنا: هات لنا شاعرًا عموديًا بمكنته رصد التجارب المذكورة وصوغها شعريًا إتقانًا وتصويرًا على نحو ما أتت به في قوالبها التجديدية ونحن سنراجع حساباتنا. وأكثر، لِم لا يتم طرح السؤال بطريقة معكوسة: ماذا لو توفّرت لبعض شعراء الخليل القدرة على الكتابة بقالب تجديديّ؟ أما كانت قصائدهم لتفتض أبعادًا أعمق؟

عند هذا الحدّ، برزت جرأة ملتقى الأدب الوجيز، وتحديدًا في ما يتعلّق بشعر الومضة. بعبارة أخرى، عندما استشرف مؤسس الملتقى وأعضاؤه انسداد الآفاق أمام أشكال التعبير المكرّسة، سارعوا إلى البحث عن أشكال بديلة يكون بمكنتها أن تستوعب الأبعاد الرؤيوية الجديدة والآفاق المعرفية المنتظرة. بهذا المعنى، أتى الأدب الوجيز ليتجاوز قصيدة النثر معتبرًا أنّ هذه الأخيرة قد استنزفت طاقاتها وأفرغت مكنوناتها وباتت الحاجة ملحّة إلى مضامين جديدة تستتبع بالضرورة أشكالًا تعبيرية جديدة.

والتجاوز الذي يُنادي به الأدب الوجيز ليس مماحكة لفظيّة أو ادّعاء شكل جديد مع الاحتفاظ بالمضمون عينه. كما أنّ ربط الشرط القولي بعدد محدد من الكلمات لا يندرج في سياق لزوم ما لا يلزم. الأدب الوجيز يطرح منظومة فكرية شعرية متكاملة، ولا نغالي إذ قلنا إنّه مدّ شرط الكتابة الأصعب إلى أقصاه. فإذا كان شعراء العمود ينادون بالفحولة والقدرة على السبك، فإنّ الأدب الوجيز يحصر تجارب كونيّة كبيرة وفضاءات مسكونية وأبعادًا رؤيوية في أقلّ قدر من الكلمات، أي في ضرب من التكثيف الذي ينطوي على إيقاعات منتظمة وأفكار متناسقة ورموز متقنة وآليات تدبّر فكريّ رصينة واستشرافات خيالية بعيدة وعصية. بوجيز العبارة، يُمكن للتّمرسّ بالكتابة الخليلية أن يُساعد الشّاعر كثيرًا على سبك المعاني في قوالب لفظية وإيقاعيّة جاهزة ومنجزة. بيد أنّ التّمرّس بكتابة شعر الومضة لا يمكن أن يفضي بكاتبها إلى كتابة الومضات بالكيفيّة نفسها والجودة عينها. المسألة مختلفة تمامًا، ذلك أنّ كتابة الومضة تستدعي بدءًا جديدًا على الدّوام، أي تستلزم تلازمًا بين معطيات متباينة ومتلازمة في آنٍ معًا، وتلكم لعمرنا مسألة غاية في التعقيد لا تتوفّر إلا للشعراء الحقيقيّين. باختصار، إنّ إمكان القول الشّعريّ بالعربيّة اليوم معقود بصورة كبيرة على الفضاءات والآفاق التي يُمكن لشعر الومضة أن يفترعها. نحن أحوج ما نكون إلى نمط جديد في الكتابة، نمط يُعيد ترتيب الأوليات والذهنيات مع كلّ ما يستلزمه هذا الأمر من تعرية السائد وفضح المسكوت عنه في الخطاب النقدي الآسن.

عضو ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى