التوجهات الاستراتيجية الأميركية في العراق… مخاطر وتحديات
أمجد إسماعيل الآغا
تنطلق التوجهات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، من بعدين أساسيين يتمّ من خلالهما دراسة التحوّلات البنيوية والجوهرية الحاصلة في المنطقة، فـ التحليل الأميركي يرتكز ضمن مسارين، أحدهما التحوّلات الأساسية والتي يمكن من خلالها دراسة الفواعل والظواهر السياسية المستجدة في المنطقة، لكن مجمل هذه التحوّلات لا تشكل خطراً استراتيجياً على التوجهات الأميركية حيال عديد الملفات الإقليمية، لأنها تأتي في السياق الطبيعي لجوهر العلاقات الإقليمية والدولية، بينما المسار الآخر والذي يعدّ في جزئياته مهدّداً مباشراً للاستراتيجية الأميركية، فهي التحوّلات الجذرية في منطقة الشرق الأوسط ، هذه التحوّلات تشكل عاملاً مؤثراً في بنية النظامين الإقليمي والدولي، إضافة إلى التحوّلات على مستوى الأحادية القطبية أو تعدّدية الأقطاب، وهذا ما يشكل عامل ضغط على واشنطن لجهة توجهاتها الجيو استراتيجية في المنطقة، وعليه فإنّ الأحداث السورية العراقية التي وسمت مشهد المنطقة لسنوات طويلة، تندرج ضمن التحوّلات الأساسية في المنطقة، لأنها أفرزت مجموعة من المعادلات والإصطفافات التي لا تشكل خطراً على السياسية الأميركية، لكن التحوّلات الجذرية التي رافقت مسار التطورات في سورة والعراق، مدعاة قلق أميركي متنام، فالانكسارات والخيبات التي مُنيت بها واشنطن سواء على صعيد تحالفاتها الإقليمية، أو على صعيد حروبها بالوكالة واعتمادها على أدوات إقليمية محلية، شكل عامل ضغط لجهة تبديل الاستراتيجيات في المنطقة، فالملف لسوري وتداعياته لجهة انتصار دمشق سياسياً وعسكرياً، فرض على واشنطن نمطاً جديداً في توظيف استراتيجيتها في الإقليم، لا سيما عبر استهداف أركان محور المقاومة، تحديداً العراق.
على الرغم من النجاح الأميركي العسكري في العراق إبان احتلاله عام 2003، ومحاولات نزعه من محيطه العربي الإقليمي، إلا أنّ العراق بحسب الرؤى الأميركية يمكن أن يعيد بناء قدراته سياسياً وعسكرياً، الأمر الذي يعدّ خطراً على مصالح واشنطن في أهمّ مجال حيوي لها، نظراً لما يتمتع به العراق من مقومات جيوبولتيكية يمكن أن تعيد به للظهور بقوة من جديد، في ظلّ نظام سياسي يكنّ العداء للولايات لمتحدة والغرب عموماً، من هنا يعدّ منع العراق من الظهور كقوة اقليمية كبرى على المسرح الإقليمي والدولي أولوية استراتيجية أميركية، وتطبيقاً لـ مضمون استراتيجية التخطيط الدفاعي لواشنطن، ولعلّ من أهمّ منظري الاستراتيجيات الأميركية مارتن انديك مستشار الأمن القومي عام 1993 ، الذي يرى بأنّ الخطر على مصالح أميركا في الخليج يأتي من دولتين هما العراق وإيران، وحدّد طريقتين لإبعاد الخطر عن التوجهات الاستراتيجية لأميركا في المنطقة، وذلك عبر تعديل سياسيات كلّ من العراق وإيران اللتين تعدّان خطراً على المصالح الأميركية في المنطقة، مع العمل على استبدال انظمة الحكم فيهما، بغية التعايش والتكامل مع التوجهات الأميركية، لكن المثير للانتباه، أنّ أنديك يرى أنّ الخطر العراقي على التوجهات الأميركية، أكثر من الخطر الإيراني، من هنا سعت مؤسسات صناعة القرار في واشنطن ضمن تخطيطها الاستراتيجي بعيد المدى، إلى تقسيم الجغرافية السياسية في العراق، مع العمل على استحضار تهديدات داخلية وخارجية ترتكز على معادلات الإرهاب، وقدرة توظيفه في السياق السياسي والعسكري الناظم لطبيعة العراق، وتداعيات ذلك على الدور العراقي الإقليمي.
ضمن ذلك لن يكون مستغرباً أنّ المناورات الأميركية في العراق، تتخذ منحى تصاعدياً يعتمد على المستجدات الإقليمية المتسارعة والمهدّدة في مضمونها للمصالح الأميركية، عطفاً على ذلك، يبدو أنّ الكيان الصهيوني أيضاً يعاني من تعقيدات جمة حيال مجمل التطورات في المنطقة، فالتصدّعات التي أصابت الخطط الأميركية الاسرائيلية في سورية مقتلاً في المضمون والأهداف، وكذا إيران التي فشلت محاولات استجدائها وإخضاعها، ونظراً للترابط الجغرافي والمصيري بين دمشق وبغداد وطهران، كان لا بدّ من إعادة توجيه السياسيات وصوغها وفق مقتضيات المرحلة الراهنة، مع العمل على نقل ساحة المواجهة جزئياً من سورية إلى العراق، خاصة أنّ الحرب على الإرهاب مستمرة في أكثر من مفصل جغرافي يربط بين البلدين…
كلّ هذه الوقائع تجعل من استهداف القوى العسكرية في العراق والمتمثلة بفصائل الحشد الشعبي العراقي والجيش العراقي، ضرورة ملحة في تطورات التوقيت السياسي والعسكري، وبات واضحاً انّ استهداف الحشد يعدّ سلسلة من خطة أميركية إسرائيلية ترمي في مضامينها إلى إقصاء دور الحشد العسكري والمؤثر على التوازنات السياسية في العراق، إضافة إلى أنّ الحشد ودوره في محاربة الإرهاب الأميركي المتمثل بداعش، شكل تحوّلاً جوهرياً في مضمون الخطة الأميركية، التي كانت تعتمد على داعش في تطبيق الخطة الموضوعة للعراق وامتداداً إلى سورية.
صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية ومحللون عسكريون صهاينة كانوا قد كشفوا في وقت سابق أنّ إسرائيل هي التي تقف وراء عمليات القصف، وذلك بالتنسيق مع القوات الأميركية المتواجدة في العراق، هذا الأمر أكدته في وقت سابق تسجيلات مسرّبة لقائد عمليات الأنبار محمود الفلاحي، مع أحد عملاء الاستخبارات الأميركية الذي طلب من الفلاحي معلومات عن مواقع الحشد الشعبي والقوات العراقية، نتيجة لذلك بات واضحاً انّ واشنطن ترتكز في حربها الاستراتيجية الجديدة ضدّ العراق على بعدين:
الأول الاستراتيجية الناعمة والتي تعتمد في جزئياتها على استهداف الحشد الشعبي إعلامياً، عبر ضخّ معلومات كاذبة تكون سبباً في ضرب القاعدة الشعبية الكبيرة التي تدعم قوات الحشد في العراق، لكن هذه الاستراتيجية فشلت خاصة بعد التزام قوات الحشد الشعبي بتوجيهات القيادة العراقية، والاندماج ضمن صفوف الجيش العراقي.
الثاني الاستراتيجية الصلبة والتي بدأت عبر استهداف ممنهج لقطعات ومراكز ومستودعات الحشد الشعبي، فضلاً عن تقارير تؤكد بأنّ بعض عناصر داعش المحتجزين لدى القوات الأميركية سيتمّ إطلاق سراحهم، وذلك بعد إدراك واشنطن أن لا قدرة لأدواتها الإقليمية باستثناء إسرائيل ، على الدخول في مواجهات مع قوات الحشد الشعبي المنضوية تحت لواء الجيش العراقي، لذلك عمدت واشنطن و إسرائيل إلى تفعيل هذه الخطوة لجهة استهداف الحشد الشعبي العراقي.
في النتيجة، كثيرة هي الأهداف الأميركية في العراق، فضلاً عن أهداف غربية إقليمية تتوافق بمجملها مع التوجهات الأميركية، لكن وبمنطق ميزان القوى، فإنّ محور المقاومة ككلّ يدرك ماهية التوجهات الأميركية ليس في العراق فحسب، بل في الشرق الأوسط كاملاً، وعليه فإنّ أسس المواجهة ومعادلاتها قد اتخذت ووضعت في الإطار العسكري المناسب، والمعتمد على قدرات محور المقاومة عسكرياً، فضلاً عن إجراءات سياسية عميقة تشكل سداً في وجه الطموحات الأميركية في العراق والمنطقة، لتبقى كافة الاحتمالات والسيناريوات التي يتمّ هندستها، رهناً بالتطورات السياسية والعسكرية في الآتي من الأيام.