«كارنيغي»: ما وراء ترحيب ماكرون الحار ببوتين في فرنسا
«من المستحيل على روسيا أن تعود إلى مجموعة السبع، لكن من المستحيل أيضاً على المجموعة أن تحلّ العديد من مشكلاتها المهمة بدون روسيا» هذا هو ما خلص إليه تحليل أعدّه الباحث ألكسندر بونوف، في مركز كارنيغي – موسكو، ويرى أنّ «علاقة الثقة بين فرنسا والقيادة الروسية، وفرصة تمثيل روسيا وراء الكواليس في تجمعات المجموعة، هي رصيد دبلوماسي مهمّ تكره فرنسا خسارته».
يستهلّ التحليل بالقول: «كانت استضافة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، في مقرّ إقامته الصيفي بجنوب فرنسا قبل أيام، على النقيض تماماً من اجتماعهما السابق في فرساي الباردة والمتاحة للجمهور».
ويرصد الباحث المفارقة بين الزيارتين: كيف وصل بوتين مُحَمّلا بالزهور من أجل زوجة ماكرون، وأثنى على مضيفَيْه بخصوص منزلهما، وكيف كان ماكرون في المقابل يتصرف بطريقة ودودة، حتى أنه نشر باللغة الروسية على صفحته على «فيسبوك».
مرة أخرى، يتناقض ذلك مع زيارة بوتين الأولى إلى فرنسا، عندما «وبّخ» الرئيس الفرنسي ضيفه بسبب أنشطة وسائل الإعلام التي تموّلها الدولة الروسية في فرنسا. وقد لاحظ كلّ من الروس والفرنسيين أجواء القمة الدافئة التي استمرت أربع ساعات ونصف الساعة.
أضاف بونوف: قد تكون موسكو التي مزّقتها الاحتجاجات فوجئت بالترحيب الحار: فبينما يُصَعّد الجزء الموالي لأوروبا في العاصمة الروسية مستوى علاقاته مع بوتين، يبدو أنّ أوروبا ذاتها تسير في الاتجاه المعاكس. وقد يبدو سلوك ماكرون في غير محله، لكنه ببساطة لديه أجندته الخاصة.
حتى الآن، لا ينظر السياسيون الأوروبيون إلى احتجاجات موسكو باعتبارها عنصراً بالغ الأهمية على جداول أعمال اللقاءات لعدة أسباب: لا يبدو أنّ الطبيعة الإقليمية للاحتجاجات ليست جادة بما يكفي بالنسبة لهم لينخرطوا، حتى لو كان السخط يصل في بعض الأحيان إلى مستوى فيدرالي.
إضافة إلى ذلك، لم يسأم الغرب من بوتين فحسب، بل أيضاً من الاحتجاجات الموجهة ضدّه. ويدرك العالم السياسي الغربي أنّ المحتجّين الذين خرجوا في الموجة الأخيرة سيُحدثون بعض الصخب، ثم يعودون إلى منازلهم كالمعتاد، على حدّ قول الباحث.
بالإضافة إلى ذلك، لدى الحكومات الغربية شكوك حول قدرة المعارضة المناهضة لبوتين على ملء الشواغر الحكومية بكفاءة خلال التغيير الافتراضي للنظام بعد 20 سنة في البريّة خارج دولاب الإدارة . وتخشى أوروبا من احتمال فقدان السيطرة في بلد ضخم مجاور.
ويردف الكاتب: «في حين ينضج المجتمع المدني بينما يذبل النظام، فإنّ بوتين وحكومته هما الممثلان الوحيدان لروسيا في الساحة الدولية. وفقاً لذلك، سيكون الكثيرون سعداء بتحوّل مختلط يتحد فيه الإصلاحيون من داخل النظام مع بعض النقاد من خارجه، دون فقدان السيطرة».
في غضون ذلك، فإنّ بوتين مسؤول عن الحفاظ على التوازن بين الفصيل الأمني داخل نظامه، والذي يسعى إلى تقويض المصالح الغربية، والمعسكر الاقتصادي داخل النظام، والذي يرغب في التعاون حول القضايا ذات الاهتمام المشترك.
هذا هو بالضبط سبب دعوة بوتين إلى مقرّ إقامة ماكرون الأوروبي الخلاب، في فورت دي بريجانكون: أفضل طريقة لتذكير الحكومة الروسية بالحقوق المدنية هي تذكيرها بهويتها الأوروبية ورسالتها. أما صبّ المواعظ المتعجرف في آذان حكومات الدول النامية، سواء الهند الديمقراطية أو روسيا الاستبدادية، على حدّ وصف بونوف.
ولا يمكن أن يكون الاهتمام الأجنبي بالحقوق المدنية المحلية ممكناً، إلا إذا كانت البلدان لها هوية مشتركة. هكذا يحاول ماكرون تأطير القضية، مع تصريحاته بأنّ روسيا بلد أوروبي، لها مكان كامل في الأسرة الأوروبية. ضمنياً، لهذا السبب يجب على روسيا احترام المبادئ الأوروبية، مثل: حرية التعبير.
يعتقد ماكرون أنه فعل الكثير بالفعل لضمان بقاء روسيا جزءاً من أوروبا. وقال في الاجتماع: «بذلت فرنسا كلّ ما في وسعها لعودة روسيا إلى مجلس أوروبا وبما أنّ فرنسا ترأس لجنة وزراء المجلس، فقد تمكنا من استغلال هذه الفرصة لاتخاذ التدابير اللازمة».
من وجهة نظر استراتيجية، لا ترغب الحكومات الأوروبية في خسارة روسيا بالكامل لصالح آسيا. ولا يريدون أن تصبح الحدود الفنلندية الصينية التي كانت ذات يومٍ موضوع مزحة تعود إلى الحقبة السوفياتية حقيقة سياسية واقتصادية.
بالإضافة إلى ذلك، وطالما بقيت مسألة صورة روسيا الدولية على جدول الأعمال، ستظلّ التذكيرات بشأن انتهاكات حقوق الإنسان مهمة: أحد أسباب إطلاق سراح الصحافي الروسي المسجون إيفان جولونوف بهذه السرعة هو أنّ اعتقاله أثر سلباً على فعالية دولية مهمة، منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي.
من جانبها، تريد القيادة الروسية ببساطة التأكد من أنّ الحكومات الأجنبية لا تستخدم قضية الحريات المدنية ضدّ روسيا في سياستها الخارجية. هذه الشكوك هي السبب الرئيس والذريعة الأساسية التي تلجأ إليها روسيا للحدّ من هذه الحريات.
وإذا كانت الحكومات الغربية تريد الحصول على نتائج بشأن هذه القضية، فعليها أن تسير على خط رفيع للغاية بين تجاهل شؤون روسيا الداخلية وصياغة السؤال بطريقة لا تؤدّي إلى تفاقم شكوك الكرملين، وفق التحليل المنشور في بروكنجز.
مخاطر استبعاد روسيا من اللعبة
كتب المحلل السياسي جليب بافلوفسكي ذات مرة: روسيا قطعة ثقيلة جداً لدرجة يصعب إزالتها من لوحة اللعبة. ونسجاً على منوال هذه الاستعارة، لا يمكن ابتلاع روسيا أيضاً، على الرغم من أنها يمكن أن تبتلع قطعاً أخرى بسهولة.
ومحاولة استبعاد روسيا من اللعبة من وجهة نظر الباحث سيجعلها فقط تبدأ لعبتها الخاصة، بقواعد تفتقر إلى التنسيق ولا يمكن التنبّؤ بها. لهذا السبب، من الأفضل إشراكها في اللعبة كلما كان ذلك ممكناً.
يحاول ماكرون القيام بذلك نيابة عن أوروبا، بشأن قضيتي الصفقة النووية الإيرانية وتغيّر المناخ. وبينما يلغي الرئيس الأميركي دونالد ترامب من جانب واحد المعاهدة متعدّدة الأطراف مع إيران، ويغادر اتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ، تبقى روسيا في كليهما، إلى جانب أوروبا. ويجب على الجانبين الاستفادة من هذا التعاون.
كما انسحبت الولايات المتحدة من جانب واحد من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى INF، لذلك من المهمّ بالنسبة لأوروبا ألا تنشر روسيا صواريخها متوسطة المدى بالقرب من الحدود الأوروبية. وبالمثل، إذا أرادت أوروبا الاستمرار في لعبتها الخاصة في سورية، فعليها استخدام الصيغ الدبلوماسية التي أنشأتها روسيا، وتضمّ دولاً أخرى في المنطقة، و»المعارضة» السورية.
توسط نيكولا ساركوزي، أحد أسلاف ماكرون، بنجاح في إنهاء الحرب الروسية – الجورجية عام 2008. وفي وقت أقرب، كان فرنسوا هولاند وسيطاً رئيسياً في اتفاقيات مينسك الرامية إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، إلى جانب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
هذا يُحَفّز ماكرون على الدفع باتجاه تنفيذ اتفاقات مينسك، أو العمل على صياغة حلّ آخر للصراع في أوكرانيا. وروسيا بدورها تثق في فرنسا باعتبارها وسيطاً أكثر من القوى الغربية الأخرى، والحكومة الأوكرانية الجديدة المنتخبة بتفويض قوي من أجل السلام تخلق سياقاً مواتياً.
فرصة فرنسية… تمثيل روسيا من وراء ستار في مجموعة السبع
بوصفه مضيفاً لقمة G7 المقبلة، يريد ماكرون إضافة بعض المحتوى الحصري إليها. ونتيجة محادثته مع بوتين، أو حتى مجرد اتصاله بالزعيم الروسي، قد تفي بالغرض هكذا يُقَدّر التحليل.
ويكمل الباحث شرح حجته قائلاً: «إنّ الوضع السياسي الحالي في أوروبا مواتٍ لدور فرنسي أكثر نشاطاً. وقرار بريطانيا بمغادرة الاتحاد الأوروبي يجعل المملكة المتحدة أطلسية أكثر من كونها أورو – أطلسية. وألمانيا أضعف الآن، وكذلك ميركل، ومن غير المرجح إصلاح علاقتها مع بوتين. علاوة على ذلك، فإنّ البلاد مشغولة بنقل السلطة إلى المستشار القادم. لكن فرنسا لم تفقد أبداً تطلعاتها إلى العظمة السياسية».
يحاول كلّ رئيس فرنسي تذكير العالم بأنّ فرنسا قوة ذات سيادة قادرة على إدارة سياسة خارجية مستقلة ونشطة. في هذه الأثناء، تحدث بوتين باستمرار مع الفرنسيين وهذه المرة لم تكن استثناء حول انتصارهم المشترك في زمن الحرب مما أضاف المزيد من الحماسة إلى هذا الموقف.
ويختم التحليل بالقول: «تشعر روسيا بمزيد من الراحة مع صيغة مجموعة العشرين، حيث إنها ليست الدولة النامية أو السلطوية الوحيدة، وليست شريكاً صغيراً. ومن المستحيل على روسيا أن تعود إلى مجموعة السبع، لكن من المستحيل أيضاً على المجموعة أن تحلّ العديد من مشكلاتها المهمة بدون روسيا. وعلاقة الثقة بين فرنسا والقيادة الروسية، وفرصة تمثيل روسيا من وراء ستار في تجمعات المجموعة، هي رصيد دبلوماسي مهم تكره فرنسا خسارته».