تستنطق الحجر وتصنع من ألمها فنّاً… الفنانة أوديت ديب: سأبقى أحاول أن أنحت بالحجر حتى ترجح كفّة الجمال على كفّة البشاعة
لورا محمود
خرجت من اللوحة لتبدع في النحت وتتحدّى آلامها وتسقطه على منحوتات من حجر صنعته الطبيعة فصقلته وطوّعته وأخرجت منه حياة فولدت معه وأعطت روحاً من خلاله لابنها الشهيد، فكلّمته وتواصلت معه وأعادته برهة إلى حضنها ثم نحتته بأجمل حلّة بشغف الأم والفنانة، فكانت منحوتاتها غارقة في الإحساس ومعبّرة على الحالة النفسية التي تمرّ بها من حبّاً وألما وصراعاً.
هي سيدة تحمل هوا وعنفوان الجبل الذي تسكنه السيدة العذراء هناك حيث رائحة البخور وصوت الصلاة لأرواح أبناء قتلهم الكره وسيوف الحقد فسارت أمهاتهم على طريق الآلام لتعود الروح مرة أخرى وتعيش في حجر النحاتة أوديت ديب التي اعتادت أن تحتفل بذكرى ميلاد ابنها بإقامة معرض لها تحية لروحه وعينيه اللتين تراهما بشوق من السماء فاستضاف المركز الوطني للفنون البصرية في دمشق معرضها بقلب مفتوح كما عادته دائماً.
«البناء» التقت النحاتة أوديت ديب التي تحدثت قائلة: أقيم كلّ عام معرضاً واحداً في ذكرى عيد ميلاد ابني. وقد كانت لي معارض في السنوات السابقة أقمتها في حمص ومشتى الحلو ومدن عديدة. هذا العام أحببت أن يكون في دمشق.
وعن تجربتها بالنحت على الحجر قالت ديب إن تجربتي خاصة في النحت وأحب العمل بحجر الأونيكس وقد جربت غيره، لكن هذا الحجر جذبني جداً، وهو موجود في منطقة قريبة من قريتي مرمريتا وأشعر أن هذا الحجر بإمكاني التعامل معه براحة أكثرمن أنواع الأحجار الأخرى.
وتابعت ديب: أنا لست أكاديمية ولست فنانة تشكيلية. لكن بعد وفاة ابني لجأت للريشة والألوان. ولجأت لتطويع الحجر كي أخرج ما بداخلي من وجع، ولجأت للجمال كي أبتعد عن كل القبح والوجع الذي كان يحيط بي والشغف هو سبب عملي بالنحت. فأنا أعمل بإحساس وعاطفة وموضوع الألفاظ التشكيليّة والنقد التشكيلي لم أدرسه لكن أعمل بعاطفتي وإحساسي.
ولفتت ديب إلى أن رسالتها من المعرض هي بأن الإنسان بالفنّ يستطيع أن ينجو من كل ما يحصل معه. وتقول: الحجر يكون بين يدي كلّه طين ووحل ويحتاج مني يومين للتنظيف ثم أقوم بالدوران حوله حتى أشعر بالتواصل معه. وبلحظة أسرح فيه وأشعر أن هناك إسقاطاً للألم في داخلي. وعندما أشعر أنني استطعت أن أصل بالحجرة إلى نقطة الوجع أتوقف عن العمل. فالحجر يوحي لي بما أريد لأن هناك تواصلاً بيني وبينه. فنوع الحجر وخطوطه تحكي معي وفي أوقات أخرى لا يصلني هذا الشعور، ولكن في النهاية أعود للحجر وأعمل بالشغف ذاته الذي يوصلني إلى الشكل الذي أريده.
وأضافت ديب: إن الطبيعة قريبة مني بكلّ ما فيها من كائنات حيّة والحجر قادر على إيصال الشكل المطلوب. وسأبقى أحاول أن أنحت بالحجر حتى ترجح كفّة الجمال على كفّة البشاعة. فأنا طوّعت الحجر وهو أيضاً طوّعني. فبالحجر أشعر أنني أتنفس مع ابني وأولد معه من جديد مع كل منحوتة جديدة.
ونوّهت ديب أنها لم تخطط أبداً لهذا العدد من المنحوتات ولا حتى للشكل الذي خرج في النهاية. وقالت: إن هناك جدلاً بيني وبين الحجر لا أجده مع الطين الذي يسهل تشكيله بعكس الحجر. وطبعاً لكلّ من الاثنين شفافيته الخاصة، ولا يمكنني أن أعمل بالخشب. هناك عاطفة قوية تربطني مع الشجرة فلا أتصوّر نفسي أمسك إزميلاً أو منشاراً وأقطع شجرة.
وتابعت: لست بصدد أن أطرح نفسي كمنافسة بين التشكيليّين. أنا أنحت أو أرسم كي أعبّر عن أمر داخلي أعيشه، لكني قريبة من خبرات الأساتذة الموجودين في الساحة الفّنية كي أضيف لتجربتي التي ستبقى طالما أنا باحثة عن الجمال وأعالج نفسي به. وطالما هذا الشيء يبقيني على تواصل مع ابني الذي فقدته.
وأخيراً شكرت ديب المركز الوطني للفنون البصرية على منحها هذه الفرصة فهي تشعرأن المنحوتات بيد أمينة وشكرتهم أيضاً على طريقة العرض.
وفي تصريح للصحافيين قال رئيس مجلس الإدارة في المركز الوطني للفنون البصرية الدكتور غياث الأخرس: المعرض اليوم للنحاتة أوديت ديب يقام
بعيد ميلاد ابنها الذي قتل مع خطيبته على يد إلارهاب. أوديت رسّامة بالأصل تركت الرسم لتقاوم هذه التراجيدية التي عاشتها. وبدأت النحت بالحجر. وهذا ليس معرضها الأول فمنذ وفاة ابنها وهي تقوم بالنحت وعندما كنت في مرمريتا قلتُ لها سأقيم لك معرضاً. فهي مديرة المركز الثقافي في مرمريتا وهي لم تعرض شيئاً من اعمالها القديمة فكلّ ما عرض اليوم هو من أعمالها الجديدة.
وأشار الأخرس إلى أن كل أعمال النحت التي نشاهدها قريبة لبعضها، فالنحات يكرّر نفسه، بينما في أعمال اوديت نرى شخصيتها واضحة ولا يوجد تشابه بين المنحوتات فكلّ قطعة كانت نتيجة حالة عاطفية ونفسيّة. وهذا ما يميز أعمالها. فهناك صدق بالشخصية أكثر من وجود صدق في المهنة، فصدق المهنة يجعل الشخص يكرر نفسه ومفهوم المهنة يجعل الفنان يعيد أعماله بينما اليوم نرى كل قطعة فيها حالة نفسيّة وعاطفية وأنا أتكلم من ناحية إنسانية.
ولفت الأخرس إلى أنه جرى العمل على طريقة عرض المنحوتات لتكون معروضة بطريقة مميزة جداً، فوضعها على الحائط مثلاً يفقد القطع قيمتها ولم نعرض لوحات أبداً في الخلف لذا توزعت بالنهاية بهذا الشكل.
وبدوره تحدث الفنان التشكيلي بسام جبيلي لـ»البناء» عن المعرض ورأيه فيه قائلاً: الفنانة النحاتة أوديت ديب لم يتح لها الجرح ترف المراقبة والانفعال السلبي للأحداث الدامية لتجد نفسها في عين العاصفة هشة رهيفة وصلبة في آن واحد. فاختارت الصخر كمعادل بصري لصور الداخل المكلوم لتجعل من اللامرئي مرئياً في النحت. واتجهت مباشرة نحو الصخر لتنطقه وتفرض عليه شروطها فتستدرج صمتها وتجريدها الأبدي نحو التشخيص الخجول الموحي. فهو تشخيص بدأ بالاعمال الأولى منحازاً معانداً مفروضاً على الشكل ليصبح في الأعمال الجديدة أكثر تساهلاً في الخروج من إكراهات الواقع لفضاءات التجريد.
أما الشاعر والناقد الدكتور سعد الدين كليب فقال: حين يتحوّل الحجر إلى أفعى أو سمكة وأن يتلبس بوجه رؤوم أو ثديين شغوفين ناصعين وأن يتخذّ شكلاً لا شكل له أقصد شكلاً تتذوقه الروح ولا تمسك به العبارة، معناه أنك أمام عفريت الفنّ ومعناه أيضاً أن الحجر اكتسب خاصيّة الوعي ليس أي وعي وإنما الوعي الجمالي تحديداً، حيث يلتبس الحجر بالوعي ويلتبس الوعي بالذوق ويلتبس الذوق بالأصابع والأصابع بالإزميل ولا تكتمل سمكة الحجر أو أفعاه إلا بعد أن يكتمل الالتباس فلا تدري أي العناصر هو الأصل بل لا تدري إذا ما كان ثمة أصل أو ثمة فرع في تلك السمكة أو الأفعى أو ذلك الشكل الذي لا شكل له.
وتابع كليب: أليس هذه هي كيمياء الفنّ وثقافته أيضاً بل أليس هو خطابه الجمالي وموسيقاه كذلك؟
يذكر أنه في نهاية المعرض تم عرض فيلم لأعمال الفنانة اوديت ديب ومراحل صنع المنحوتات وصور لابنها الشهيد ومقتطفات من حياته لتختتم الفيلم
بكلمات لها تحية لروح ابنها قالت فيها: «سألدك مرات مرات يا ولدي بالحجر.. باللون.. بالكلمة.. لذا لن تموت».