ديفيد شينكر… كيف يفكّر؟

توفيق شومان

من مشهورات الفيلسوف اليوناني سقراط قوله: تكلم حتى أراك، وعلى خطى الأستاذ العظيم سار الطالب العظيم أفلاطون، فحتى يرى، ذهب إلى الحوار، وزاد على أستاذه قولاً مأثوراً: معرفة الأسماء قبل معرفة الأشياء.

دائماً ارتبطت العين بالحقيقة، ولو تمّ استثناء السراب، لغدت العين والحقيقة زوجاً لا فكاك بينهما.

ويقال أيضاً: نظريّة، وهي من نظر، ونظر شقيق رأى، ويقال بصيرة، وهي الحكمة، وفعلها بَصِر، فتح الباء وكسر الصاد والأفعال الثلاثة مصدرها العين. ولذلك يقال نظرية فلان أو رؤية فلان إذ ما أريد التعبير عن حقيقة فكره وآليات عمل عقله.

في التاسع من أيلول الحالي، زار العاصمة اللبنانية، مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد شينكر، مستطلعاً، كما قيل، مواقف وآراء المسؤولين اللبنانيين، حيال ملفات محلية وإقليمية عدة، من بينها أفق ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة.

والسؤال المطروح هنا:

هل جاء ديفيد شينكر إلى بيروت مستطلعاً ومستكشفاً؟ أم أنه جاء مثقلاً برؤى مسبقة ومبهظاً بأفكار كتبها وأبحاث نشرها حول لبنان ودول الإقليم طوال أكثر من عقد؟

الإجابة عن هذا السؤال تفرض العودة إلى كتابات ومنشورات ديفيد شينكر في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ، حيث رؤاه وآراؤه تعكس بما يفكر وتنبئ بما ينظر.

فماذا كتب ديفيد شينكر؟ وكيف يفكر؟

البداية من نظرته إلى الرئيس ميشال عون.

أسهب ديفيد شينكر في الكتابة عن الرئيس ميشال عون، قبل وصوله إلى رئاسة الجمهورية وبعده، إلا أن ثمة مقالتين توجزان رؤيته للرئيس عون، واحدة إثر التسوية الرئاسية بين الأطراف اللبنانية في العام 2016، والثانية بعيد اتفاق القوى السياسية المحلية على قانون الانتخاب في العام 2017.

وتحت عنوان رئيس جديد للبنان ، كتب ديفيد شينكر بتاريخ 31 ـ 10 ـ 2016 فقال: يعتبر كثيرون في الولايات المتحدة والمنطقة أن انتخاب عون هو انتصار لحزب الله وإيران، وفي العام 2006، وقع حزب عون مع حزب الله مذكرة تفاهم، ومنذ ذلك الحين أصبح الجنرال حليفاً قوياً للحزب الشيعي وراعيه الإيراني، وبعدما فاز التيار الوطني الحر بالعدد الأكبر من المقاعد بين الأحزاب المسيحية في الانتخابات النيابية في عامي 2005 و2009، أيّد باستمرار أجندة طهران في لبنان، ودعم نظام الأسد، وأصبح يُعتبر على نطاق واسع لاعباً طائفياً معادياً للطائفة السنية في لبنان .

وحين تفاهمت القوى اللبنانية الفاعلة حول القانون الانتخابي في العام 2017، كتب شينكر تعليقاً جاء فيه: يُعتبر هذا القانون نوعاً ما انتصاراً للميليشيا الشيعية المدعومة من إيران التي تعمل كحزب سياسي أي حزب الله، ولم يتمّ التوصل إلى هذا الاتفاق، إلا بعد اجتماع حاسم بين نصرالله ورئيس التيار الوطني الحر وصهر رئيس الجمهورية جبران باسيل، 6ـ6ـ2017 .

ذاك موجز لرؤية ديفيد شينكر للرئيس عون والتيار الوطني الحر

وأما موجز رؤيته للجيش اللبناني فهي:

في الأول من نيسان 2014، كتب ديفيد شينكر تقريراً مطولاً، هذا مقتطف منه: هناك القليل من العلامات الواضحة التي تفيد بأن الجيش يتصدّع، ولكن إذا لم تلُحْ في الأفق نهاية لطريق الحرب في سورية، فإن احتمال تدهور الجيش وفقدانه لمصداقيته تثير المخاوف وتبعث على القلق، ففي عام 1975 وقبل وقت معتبر من وصول مستويات العداء بين السنة والشيعة إلى ما هي عليه الآن، لم يستطع الجيش منع الحرب الأهلية أو احتواءها، أما اليوم ومع تفاقم التوترات في لبنان، يصعب وبشكل متزايد أن نتخيّل مساراً مختلفاً للقوات المسلحة اللبنانية «.

وفي السادس من حزيران 2017، ورد في تقرير نشره ديفيد شينكر: تفاخر حزب الله مراراً وتكراراً بسيطرته المستمرة على الجنوب وعلاقة العمل الممتازة التي تجمعه بعناصر الاستخبارات الوطنية التي تقف على نقاط التفتيش الممتدة على الطريق المؤدي إلى الحدود، وفي أيار/ مايو، سلّم عدداً كبيراً من مراكز مراقبة الحدود السورية التي كانت تحت سيطرته إلى الجيش اللبناني، وعلى الرغم من أن هذا التسليم السلس والمفاوضات الودية المستمرة حول المواقع الحدوديّة الأكثر حساسية قد يوحيان بازدياد قدرات الجيش اللبناني، إلا أنهما يشيران أيضاً إلى ارتياح حزب الله من مستوى التنسيق مع الجيش .

وفي أعقاب إصدار المحكمة العسكرية حكماً بإعدام الشيخ أحمد الأسير قال شينكر في تقرير منشور بتاريخ 4 ـ 10 ـ 2017: في العام 2013، نفذ الجيش اللبناني عملية عسكرية استمرت يوماً كاملاً ضد الأسير و200 من أنصاره، غير أن الجيش اللبناني، الذي عجز عن إلحاق الهزيمة بالأسير، طلب مساعدة حزب الله، منسقاً العمليات مع الميليشيا المدعومة من إيران لاقتحام معقل المسلحين ودحر الجماعة في النهاية. ومنذ ذلك الحين، يمكن القول بموضوعية إن حزب الله كان ينسق بشكل أوثق حتى مع مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، لمحاربة المسلحين الإسلاميين السنة .

الواضح في هذه التقارير أن ديفيد شينكر ينتج ثلاثية قوامها:

ـ احتمال تصدع الجيش اللبناني.

ـ التنسيق بين الجيش وحزب الله.

ـ التركيز على البعد السني لحركة الأسير كما جاء في التقرير الأخير، وعلى احتمال تصدّع الجيش بفعل ما اعتبره شينكر توتراً سنياً ـ شيعياً، كما ورد في التقرير الأول.

هذا التركيز على البعد الطائفي، سيشهد تكراراً ملحوظاً في كتابات شينكر، ومنها على سبيل المثال:

في الرابع عشر من آب 2014 كتب شينكر: لا تزال ميليشيا حزب الله اللبناني الشيعية تحارب الشعب السنيّ في سورية – نيابة عن نظام بشار الأسد العلويّ – بمأمن من العقاب. الأمر الذي أثار غضب السنة في لبنان، والأسوأ من ذلك هو أن الجيش اللبناني كان يتعاون مع حزب الله بشكل غير رسمي لمحاربة المسلحين السنة في لبنان، مما أضعف من صورة الجيش الحيادية ومكانته كمؤسسة وطنية غير طائفية .

وفي التقرير نفسه يقول: بينما يواصل الجيش بدأب تحاشي معاداة حزب الله، إلا أنه يتبع موقفاً تزداد حدته العدائية تجاه المقاتلين السنة. وهذا التوجه يدفع العديد من السنة اللبنانيين إلى استنتاج أن الجيش لم يعد محايداً، ومن السهل أن نرى كيف توصلوا إلى هذا الاستنتاج .

وفي 10 ـ1ـ 2015، ورد في تقرير كتبه شينكر: أن الكثير من السنة استاؤوا من الصفقة الخاسرة بين وزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي حيث السيطرة السنية، وقوات الأمن العام التي يهيمن عليها الشيعة، وكجزء من هذه الصفقة، تم منح الميليشيا الشيعية بطريقة فعالة إذن مرور لقواتها ذهاباً وإياباً من سورية وإليها، في حين يتم القبض بانتظام على المسلحين السنة، من اللبنانيين والسوريين على حد سواء .

وبحسب شينكر أنه منذ العام 2005، قدمت الحكومة الأميركية الدعم المالي والتدريب للجيش اللبناني، وفي عام 2016، قدّمت مساعدة بأكثر من 150 مليون دولار، ويقيناً أن هذه المساعدة قد حسنت قدرة الجيش على محاربة المسلحين الإسلاميين، ولكن حتى الآن – وفي المستقبل المنظور – من شبه المؤكد أن الجيش اللبناني سيستهدف السنة فقط، وإن تحيّز الدولة لصالح الشيعة يعزز مظالم السنة، التي يمكن أن تؤدي بمرور الوقت إلى التطرف ، 4 ـ 10 ـ2017 .

ذاك ما يقوله ديفيد شينكر

شفاف وواضح

يجهر ويسفر

ولكن ماذا عن نظرة الولايات المتحدة إلى لبنان؟

هذا ما يورده ديفيد شينكر في ثلاثة تقرير:

ـ لا يمثل لبنان، على الأقل بالمعنى التقليدي للكلمة، موضع اهتمام استراتيجي للولايات المتحدة، ومع ذلك، تتمتع واشنطن بمصلحة قوية في استقرار لبنان ، 10 ـ12ـ2015 .

ـ في الوقت الراهن، لا يزال المسار الذي ستتبعه السياسة الأميركية في عهد الرئيس ترامب غير واضح المعالم ، 6ـ6ـ2017 .

ـ استقرار لبنان يهم واشنطن إلى حد كبير، وذلك أساساً لأن الدولة اللبنانية على حدود إسرائيل ، 4ـ10 ـ2017 .

إسرائيل أولاً

هذا معروف

ولكن ماذا عن مستقبل لبنان؟

يقول ديفيد شينكر في مقالة منشورة بتاريخ 31 ـ 10 ـ 2016: في ظل وجود عون أو غيابه، لا يزال حزب الله وإيران الجهتين السياستين المهيمنتين في البلاد، وفي غياب سياسة أميركية فعالة تكسر شوكة طهران ووكلائها في سورية، سيبقى لبنان على شفا أزمة .

ما العمل إذا؟

يجيب ديفيد شينكر راسماً خارطة طريق: المسار في لبنان ليس بمنأى عن التطورات الإقليمية، فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنفوذ إيران المتنامي، الآخذ في الازدياد في لبنان منذ عشرات السنين، ولكن برز في الآونة الأخيرة في سورية والعراق أيضاً، ولمنع تدهور الوضع في لبنان، سيتعيّن على واشنطن ردع إيران في النهاية، فمحاربة المسلحين السنة من دون التصدّي لما قد يشكل تطرفهم الرئيسي، ليست استراتيجية رابحة ، 4ـ10ـ2017 .

هذا هو الموجود في جعبة ديفيد شينكر،

فما الذي يمكن أن يجدّ او يستجدّ على الموجود؟

البداية كانت مع الفلسفة والنهاية مع السجع.

يقال: الجود من الموجود.

تلك هي دفاتر ديفيد شينكر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى