السياسة والتعرّي والقُبل… بين فشل النظام وعقد الفنان وادعاء التحرّر في الفنّ العربي
جهاد أيوب
التعرّي في فنّ التمثيل العربيّ ليس جديداً، ولكنه منذ فترة يأخذ حالة من الفراغ الفكري والفنّي المتعمّد، ولم يعُد في مكانه داخل حبكة درامية مطلوبة، هو في الفيلم العربي حالة ضرورية من الرخص، والبحث عن غريزة مريضة عند الفاعل والمتلقي، كان من أجل المنتج الباحث عن الجمهور المحروم والمريض جنسياً، واليوم ضرورة سياسية في عمل المنتج التابع لنظام تسييسي يهدف إلى غزو المجتمع العربي الخائف من كل جديد، وتخديره هو المطلب!
في السابق كان المنتج في الفيلم المصريّ يفرض التعرّي الخفيف من قبل الممثلة من أجل جذب المشاهد، رافق ذلك إقحام الرقص الشرقي اقحاماً حاسماً، والفيلم المصري من دون «رقاصة» ليس فيلماً شعبياً، وقد تكون الراقصة تحية كاريوكا أكثر فنانة أنتج برقصها، وألفت حولها روايات من كل الاتجاهات منها صناعة أجهزة المخابرات المصرية، ومنها صناعة المنتج والإعلام.
سبقت تحية أسماء كثيرة نذكر بديعة مصابني «راقصة الزوات» ولكن تحية صمدت مع تغيرات الزمن، وكانت الأبرز… ومع كل هذا كانت المشاهد تلك تدرس بعناية مع كثير من أخلاقيّات المهنة، وقيود المجتمع في تلك المرحلة حتى أناقة الممثلة لم تكن حاجة ضرورية إلا بعد مرحلة انتصار ثورة جمال عبد الناصر أو ثورة الضباط الأحرار !
واكب تلك المرحلة الكثير من التجارب الغنائيّة، والسينمائيّة، والأدبيّة، واحتلت الأفلام الاستعراضيّة المساحة الكبرى، وكانت امتداداً للتجارب التي ظهرت في أواخر النظام الملكيّ، ونستطيع القول مرحلة ثورة الضباط في مصر هي مرحلة التكوين والتبلور في الحالة الثقافيّة بشكل عام!
برزت الأناقة عند الممثلات من خلال السيدة صباح، ومن بعدها حاولت أن تجاريها شادية وفاتن حمامة مع أناقة مدروسة فيها إغراءات تبرز جمال المرأة الفنانة.
في أواخر الأربعينيّات ظهرت هند رستم، لم يتحمّس لها الجمهور إلا بعد منتصف الخمسينيات بعد أن قدّمها المخرج الكبير حسن الإمام كنجمة إغراء تتعرّى بشكل دائم، ومقلدة لصوفيا لورين مع امتلاك هند لموهبة التمثيل أكثر من لورين. بعد هزيمة 1967 صدرت تعليمات رئاسية حاسمة للرقابة على المصنفات الفنية المصرية تسمح بمشاهد الجنس والمخدرات، وتعري الممثلات، وسمح الرقيب باستخدام المفردات القبيحة والخادشة، وبعدها ظهرت موجة ممثلات جميلات وعاريات منهن شمس البارودي، وميرفت أمين، ونجلاء فتحي، وسهير رمزي، وناهد شريف، وناهد يسري، وماجدة الخطيب… ولتطل علينا أيضاً موجة أفلام تعتمد على طرح كل ما ذكرت مثل فيلم «ثرثرة فوق النيل»، و»أبي فوق الشجرة»، والأخير بطولة عبد الحليم حافظ ونادية لطفي حيث القبل والتعرّي في كل المشاهد… حققت هذه النوعية من الأفلام نجاحاً لا يوصف، وتحمّس لها نقاد الاتجاه الغربي بتعصّب.
بعد اتفاقية «كامب ديفيد» في عهد الرئيس أنور السادات سمحت الرقابة استخدام كل أنواع التعرّي ومشاهد الجنس بطريقة مقززة، وانتشرت أفلام المخدرات نذكر «الباطنية» ولمع نجم نادية الجندي، وارتدت هذه الممثلة كل ما يحلو لها من ملابس متعرّية، وأفلام نبيلة عبيد، ومديحة كامل!
في مصر كانت ولا تزال الحرية موسمية بمزاجية النظام الحاكم وإلهاء الشارع عن الدولة، وهذا واكب كل العهود!
هجرة النجوم
وبعد التأميم وأيضاً في عهد ناصر برزت أفلام نجمات من غير هدوم خاصة في فترة هجرة نجوم مصر إلى لبنان وصناعة الكمّ الكبير من الأفلام المشتركة بقيمة ساذجة وسخيفة تعتمد على الغريزة ومشاهد القُبل والبوسة العبيطة!
في حينها ازدهرت الدراما المصرية بشكل كبير مع المحافظة على تقديم صورة المرأة بوقار الملابس، ولكن في السينما اختلفت الصورة عند ناهد شريف وشمس البارودي ومديحة كامل، وزاد فعل التعري في السينما المصرية مع مرحلة حكم الرئيس أنور السادات واتفاقية «كامب ديفيد» من خلال سهير رمزي وهياتم ونادية الجندي و بعض مشاهد يسرا، ووو… وتقلّص دور ماجدة، وهند رستم، رغم صمود فاتن حمامة وبالعافية، وغاب الفيلم الاستعراضي الخفيف فاعتزلت ليلى مراد، وهجرت صباح السينما إلى المسرح والغناء، وقلّصت شادية مساحة أعمالها إلى الاعتزال..!
الحالة اللبنانية
مع هجرة الفنان المصري إلى لبنان ازدهرت أفلام التعرّي بوقاحة، بينما الدراما التلفزيونية حافظت على وقارها، وكانت شبه نامية أبرزها المسلسلات اللبنانية السباقة في تقديم إنتاجها عربياً معتمدة على اللغة الفصيحة، والقصص الجامعة والتاريخية، والأهم لم يكن يسمح بتعرّي الممثلة أو حتى الممثل الذكر، ويمنع الكلام النابي من النصّ، وكانت المفاجأة في عام 1974 ومع إشارات الحرب الأهلية اللبنانية حيث قدّم الكاتب جورج خاطر القُبلة وبعض المشاهد الحميمية البسيطة في مسلسل «ناطور الحارة» من تلفزيون لبنان، وصوّرت القُبلة بين إحسان صادق ومنى سعد في ملتقى النهرين في منطقة الدامور، وبذلك سجلت أول قبلة في تاريخ الدراما التلفزيونية في لبنان وعربياً، لا بل كرّست عربياً. ومع ذلك استمر منوال المحافظة على عدم تكرار المشاهد الحميمية في الدراما اللبنانية، واعتبر ما حدث في « ناطور الحارة» خطأ رغم انقسام الآراء النقدية بين مؤيد ورافض إلى ما بعد عام 1975 مع انطلاق شرارة الحرب الأهلية اللبنانية بعنفها وإجرامها ودمارها، وظهرت مجموعة كتاب ونقاد تعلموا بالغرب تطالب بأعمال تعتمد على اللهجة المحلية، والجرأة في طرح المواضيع الحميمية والسياسية، وبعض مشاهد الغريزة الخفيفة بحجة الحرية الإبداعية!
في لبنان يفهمون الحرية من دون القيود الأخلاقية، وأكثر من يطالب بها من لا علاقة له بفهم حرية الآخرين لأن المجتمع اللبناني يعيش التعصّب الديني، والتعصّب الحزبي، والتعصّب المناطقي واللهجة، ومع ذلك يدّعي بأنه يقلد المجتمع الغربي من خلال استخدام مفردات فرنسية وانكليزية مشبوهة!
خلال سنوات الحرب انتشرت ظاهرة ممثلات الصدفة، وكانت ممثلات لبنانيات من غير هدوم على الشاشة ومنهن ملكات الجمال وعارضات الأزياء، وربما أشهرهن سلفانا بدرخان، وكلنا يذكر «العاصفة تهبّ مرتين» الذي وصل إلى أكثر من 100 حلقة بطولة فادي إبراهيم ورولا حمادة، ومن ثم «نساء في العاصفة» وأيضاً 100 حلقة… وهات يا مشاهد حارة وحرّة وعبط وقُبل ومن غير هدوم في العملين المذكورين، والعجيب أنهما حقّقا انتشاراً وشهرة لا توصف!
اعتبر أهل الاختصاصات الاجتماعية أن سبب هذا النجاح يعود إلى رفض الناس للحرب وللفراغ الفكري والديني الذي أصاب المجتمع اللبناني في حينه، وانتشار الأحزاب بكل تنوعها العنصري والديني…
من هنا بدأ الفكر السطحي يغزو الفنّ، والسذاجة الفنية هي المطلوبة حتى لا تُصبغ الأعمال بالتحزب وبالتسييس وتباع في دول الخليج، وفُرض التعري لا بل انتشر، وعدم الموهبة والشللية الفنية والطائفية سيطرت مع الادعاء والغرور والتعصّب… وصولاً إلى شبه انقراض للدراما اللبنانية والقيم في الدراما العربية.
في تلك المرحلة تقوقع الإنتاج الدرامي اللبناني والسينمائي، وانتشر المسرح بأنواعه والغناء والرقص الشرقي، والفن التشكيلي، والإعلام، وكتابة الشعر، والإذاعة، وبدأ الموت يخطف نجوم التأسيس حتى النسيان، ولم يعُد الجيل المقبل يتذكرهم سوى بالكلام.
منذ العام 2000 ونجمات الفنّ في لبنان اعتمادهن على التعرّي بمناسبة ومن دونها، وأدخلناه في المسرح والدراما التلفزيونية، ولكنهن أبدعن في فعل التعرّي سينمائياً رغم إمكانيات بعضهن تمثيلياً، ولائحة الأسماء تطول وعلى رأسهن ندى أبو فرحات رغم إمكانياتها التمثيلية الرائعة… نعم غالبية جيل ندى وما بعده والحالي يفهمون الفن من خلال التعرّي في المشهد، وعلى ما يبدو يفهمن الحرية الفنية من خلال هذا الأسلوب والمرض.
إذا المشهد تطلب بعض التعرّي أو الحالة الحميمية ليس بالضرورة أن يثير غريزة المتلقي كما هو حال تقديمها في بعض الأعمال الغربية، بينما في الفنّ العربي تقدّم هكذا نوعية بإفلاس الرغبة المريضة، ولا يزال المنتج العربي معتقداً أن الإكثار من مشاهد الغريزة المريضة تجلب الجمهور، ولا تزال الممثلة العربية معتقدة أن التعرّي يجلب لها الحظّ عند المنتج والشهرة، ويُغيب عنها العمر بحجة فعل كهذا فيندرج تحت لواء فهم الحرية والحرية الشخصية، ضاربة بعرض الحائط طبيعة الدور ومتطلباته!
غالبية رواد التعرّي في الفنّ اللبناني والمصري، وعند بعض الممثلات السوريات هذه الأيام يؤمن أن فعلتهن حرية شخصية تنتمي إلى تطور العصر، وبعضهن يعتقد أنه بذلك التصرف يواجه التخلّف والكلمة والتعصّب بمجتمعنا، والنتيجة محاربة التعنت والتخلّف بالجهل، والتعري النمطي يعني التخلف…
…ليس بالضرورة ان «يشلح» الممثل أو الممثلة حتى يقدّم دوراً فيه إحساس الإغراء.. الصدق بالأداء هو المطلوب وليس الشكل بالأداء… وقراءة الشخصية بتمعّن لا أن تتركها لشهرتك ونجوميتك والسلام هي التي تقنعنا بتأدية مشاهدك !