دنان لينة الصفدي وكولاج النصوص

فراس حج محمد

تحت توصيف «كولاج» وعنوان «دنان» تقدّم الكاتبة الفلسطينية لينة الصفدي كتابها «دِنان» في 86 صفحة، فما الذي دفع الكاتبة لهذا التوصيف «كولاج»، ولهذه التسمية «دِنان»؟ لا بدّ أولاً من الوقوف على مصطلح «كولاج» ودلالته، فربما أصبح بالإمكان الوقوف بعدها على الكتاب وطبيعته.

تبدأ المسألة من لوحة الغلاف التي رسمها الفنان السوداني سيف لعوته، وهو فنان تشكيلي يستخدم أسلوب الكولاج في لوحاته، والكولاج: تكنيك فنّي يقوم على تجميع أشكال مختلفة لتكوين عمل فنّي جديد، ومن الفنّ التشكيلي تسرّب المصطلح إلى العمل الأدبي، ولعلّ بين النص الأدبي اللغوي وبين التشكيل الفنّي علاقة كبيرة، علاقة تآخٍ وتوأمة، فقد أصبح معروفاً أن لكلّ كتاب غلافاً معبّراً عما فيه، ويعطي القارئ أو المشاهد بعضاً من مضمون ذلك الكتاب.

إن هذا التوصيف يُحيل إلى التنوّع في ظاهر مكوّنات اللوحة الفنية التي قد تصل إلى حدّ التنافر الخارجي، حتى ليظنّ المشاهد للوحة أحياناً أنه لا جامع يجمع عناصرها ومكوّناتها، ولكن لا شكّ في أن هناك هدفاً ورسالة وراء هذا العمل، فلا يمكن أن يكون خالياً من رسالة فنية تتعاضد مع الرسالة الفكرية، وما ينطبق على اللوحة التشكيليّة في المفهوم لا بدّ من أن يكون له مقابل في العمل الأدبي اللغوي الذي يعتمد اللغة في البناء، ويوظّف كل إمكانياتها وأساليبها التجنيسية ضمن إطار واحد تجمعه الوحدة والهدف والرسالة.

لقد جاء في كتاب «معجم السرديّات» توضيح لمفهوم الكولاج، حيث «ارتكز الكولاج في النصوص السرديّة على إقحام مقتطعات من نصوص أخرى متنوّعة كالرسالة والمقالات الصحافية والنصوص العلمية والتاريخية واليوميّات والإعلانات وعناوين الأخبار. إضافة إلى الصور والرسوم البيانية والخرائط والجداول والنوتات الموسيقيّة والوصفات الطبيّة، ويمكن للنص السرديّ أن يقحم كذلك من نصوص سرديّة أخرى للمؤلف نفسه أو لمؤلفين آخرين، لذلك يُعدّ الكولاج مظهراً من مظاهر التناصّ في النصّ السردي». معجم السرديات، مجموعة مؤلفين، 2010، ص 358

ومن الشواهد في الأدب العربي على الأعمال السرديّة التي اعتمدت على تقنية «الكولاج» رواية «ذات» للكاتب المصري صنع الله إبراهيم، ولم تصبح هذه التقنيّة شائعة في الأدب العربي الحديث سوى من رواية «كولاج» للكاتب الجزائري أحمد عبد الكريم التي «تتمحور حول الفن التشكيلي وتستعيد التاريخ والفن وروحانية الخط العربي، وتتجلى فيها صوفية الصحراء وإشراقات المكان والإنسان». جريدة الجزائر، 5 نوفمبر 2018 .

ومن الملاحظ أيضاً أن مصطلح الكولاج في الأدب، لا يشكّل جنساً أدبياً مستقلاً، وإنما هو تقنية بناء للعمل الأدبي، فهو «تعبير عن تعدد المعنى وتداخل الأنساق وحوارية الأجناس». معجم السرديّات، ص 359 . كما أنه في الفنّ التشكيلي لم يكن سوى «تكتيك فنيّ»، وليس مذهباً فنياً كالواقعية أو التجريدية أو التكعيبية، أو غيرها من المذاهب والمدارس الفنية.

ما الذي فعلته لينة الصفدي في كتابها «دنان»؟ لقد نقلت التقنية السردية والفنية من مجرد تقنية داخل العمل الأدبي إلى جعله جنساً أدبياً يحتلّ موقعه البارز على غلاف الكتاب، فأصبح هوية علاماتية للنصّ، وهذه مغامرة، وتجريب يحسب للكاتبة وتطوير للتقنية الفنية والسرديّة، فهل أسعفتها نصوص الكتاب في هذا التجريب لتشكّل جنساً أدبياً؟

وفي استعراض للنصوص التي اشتمل عليها الكتاب يُلاحظ أنها مكوّنة من مجموعة من النصوص السرديّة المتنوّعة في انتمائها السردي، وكذلك مجموعة من النصوص الشعريّة، وجاءت النصوص كما يأتي:

أولاً: النصوص النثرية القصيرة غير المعنونة، وبلغ عددها أربعين نصّاً.

ثانياً: النصوص النثرية القصيرة المعنونة ستة نصوص.

ثالثاً: الرسائل القصيرة وعددها أربع.

رابعاً: النصوص الشعريّة، قصيرة وطويلة، معنونة وغير معنونة وعددها عشرة نصوص.

هذه هي خريطة النصوص وتجنيساتها الأدبية داخل الكتاب المعنون بـ «دنان»، فقد تداخلت الأنساق في هذا الكتاب معبّرة عن «حوارية الأجناس» الأدبية، لتقديم فكرة واحدة وجدانية، فقد تمحورت هذه النصوص جميعها حول فكرة العلاقة العاطفية مع «الحبيب»، وهذا هو الرابط الأول الذي يؤلف بين هذا التنوّع الأدبي التجنيسي، كما أن اللغة وطبيعتها وإيقاعها الموحّد كانت رابطاً مهماً أيضاً، يجعل من هذه النصوص لوحة واحدة متآلفة وغير متنافرة.

وربما اتصلت بقضية التجنيس قضية الكتابة نفسها، لا سيما أن «دِنان» هو الكتاب الأول للينة الصفدي، ومن اللافت للنظر اهتمامها بمسألة الكتابة، سببها وأهدافها. وقد استفتحت الكتاب بثلاثة نصوص نثرية قصيرة عن الكتابة، وأعادت الحديث عن الكتابة في نصين آخرين. وتتناول الكاتبة في النص الأول والثالث العلاقة التي تحدثها الكاتبة بينها وبين المتحدث عنه، لتصبح الكتابة والقراءة طقوساً خاصة وحميميّة. أما في النص الثاني فثمة تساؤل خفي حول سبب الكتابة، كأن الكاتبة تحاول الإجابة عن السؤال التقليدي: لماذا يكتب الكاتب؟ لتختصر الجواب بأن «الكتابة تفرض ذاتها وحضورها متى شاءت»، دون تعليل أو سبب ظاهر لذلك، وهذا ما أكدته في النص الرابع، فالكتابة كما ترى الكاتبة ما هي إلا التعبير عن «هذا الزخم الهائل من المشاعر». وها هي تعلن في النص الخامس من النصوص التي تناولت مسألة الكتابة. تقول: «لا أعلم ما الذي يدفعني للكتابة الآن، أهو مجرد رغبة لها أم هو اشتياق لك؟».

تعلن هذه النصوص الخمسة المشار إليها أعلاه عن اهتمام بالكتابة، وإن لم تُرجع الكاتبة سبب الكتابة إلى تلك الأسباب التقليدية المتعارف عليها عند الكتّاب، وتظل تلك الأسباب بالنسبة لها غامضة، ولا تتصل إلا برغبة ذاتية مدفونة في نفس الكاتب، كأن هناك قوة دافعة توجّهه ليكتب، دون أن يستطيع تفكيك هذه القوة أو فهمها، وإن وعى على نتائجها في النهاية، وهو يؤلفها في كتاب، فالكتابة غامضة الأسباب، ليست هي نفسها مسألة «التأليف» الواعية الهدف والرسالة، الفنية التجنيسية والرسالة الفكرية الوجدانيّة، فإذا ما كانت الكاتبة لا تعلم لماذا تكتب على وجه الدقة، إلا أنها تدرك تماماً صنعتها الفنية في الكتاب. وهذا يقودني للحديث عن العنوان وما يتصل به من معانِ. فما الذي قصدته الكاتبة بالعنوان «دنان»؟

يكشف المعجم اللغويّ أن الدنان من أصل ثلاثي هـو د ن ن ، ويحمل هذا الأصل اللغوي معاني متعددة، وما قد تشير إليه النصوص أو العمل بشكل عام من هذه المعاني معنيين، يشير الأول إلى أن «دنان» جمع دنّ وهو وعاء ضخم للخمر والخلّ، وعلى ذلك، فالدنان هي أوعية الخمر. وهذه النصوص الستين تشكل أوعية لفكرة الكاتبة، فالنصوص المتعددة تحمل فكرة واحدة، كالدنان التي تحتفظ بالخمر، على الرغم من أنها ليست نصوصاً «ضخمة» كما يزعم المعجم بل جاءت في معظمها قصيرة، ولكنها ربما هي ضخمة في أفكارها ومشاعرها وقضيتها التي تحملها. تقول الكاتبة في أحد النصوص: «لا إغراءات قلم، ولا شيء من هذا القبيل… كل ما في الأمر أن النفس قد ضاقت بهذا الزخم الهائل من هذه المشاعر». ص 29

وأما المعنى الثاني للأصل اللغوي د ن ن فيشير إلى الغمغمة وما لا يفهم من الكلام. وربما في هذه النصوص ما يوجه المعنى إلى هذه الدائرة، فالنصوص لا تفصح تماماً عن أشياء كثيرة، وظلت غامضة، كما أن هناك التباساً في العلاقة بين الإحجام والإقدام للسارد أو المتحدث في النص في التصريح بالمشاعر التي اكتنزتها هذه النصوص. يبدو هذا الغموض في العلاقة بين الطرفين الحبيبة المتحدّثة في النصّ والحبيب الغائب واضحة في هذا النص القصير: «قد تكون تحبّه… لا تدري… كل ما تعرفه هو ذلك الدفء الساكن بها، الذي يقيها وحدة لياليها حين تتذكّره، لتبقى أسيرة. شكراً له مدى العمر». ص 54 يبدو للذكريات إذن طنين يدنّ ويرنّ في رأسها، مزعج هو إذن كطنين الذباب، لكنها تحب ذلك وتطلبه.

لقد جاء هذا العمل الأدبيّ ليعيد القارئ إلى أهمية التفكير في الخروج عن مألوف الكتب، وجنسها الأدبي، وربما يشكّل خطوة جريئة نحو التفكير بهذا الأمر، من توالد للأجناس الأدبية، واستيلادها من تلاقح الأجناس الموجودة، لعل الكتاب والنقاد جميعاً يلتفتون إلى هذه الإشارة فيطوّرونها ويبنون عليها تنظيراً نقدياً وكتابة إبداعية أكثر رسوخاً في عالم الأدب. فثمة أنواع أخرى مؤهلة لتعلن عن نفسها بعيداً عن الرواية الخالصة أو الشعر الخالص أو المسرحية، فالأدب لعبة لغوية تحتاج أديباً ماهراً ليعيد تشكيلها على نحو جديد كما فعلت لينة الصفدي في كولاجها هذا المعنون بـ «دنان».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى