إدلب «أم القرى» تستحضر «كيماويّ» الأميركيين

د. وفيق إبراهيم

أم القرى هو وصف تاريخي لأهمية مكّة المكرمة في محيطها الإسلامي وزمنها، وكذلك إدلب التي تعكس حالياً أهمية كبيرة في المفترق الحالي لأزمة سورية. فيشعر المراقب أنها النقطة الحيوية التي تتقاتل عليها قوى الصراع، بدءاً بالأتراك الذين يستثمرون فيها بالاحتلال المباشر والإرهاب لضمان ادوارهم السياسية المستقبلية، والأميركيين المصرّين على استعمالها سداً يمنع الوصول اليهم في شرقي الفرات وشمالي سورية، اما الإرهاب فيعولُ على الأميركيين والأتراك لحمايته في آخر نقاطه في المنطقة.

لجهة الاهتمامات الروسية فهي ثنائية تريد من تحرير إدلب أن يشكل ميدان الانتقال للصراع مع العدو الأميركي في الشرق الأوسط بكامله من خلال الشرق والشمال السوريين. هذا فضلاً عن المزيد من جذب الترك بالتساهل في عملية تدريجية لطردهم من سورية.

هناك أيضاً اهتمام سعودي بإدلب هو جزء من الاهتمام الأميركي الأكبر، لكنه يتواكب مع اختصاص عميق لمخابرات آل سعود بأنواع الإرهاب، انما مع بعض الخصوصيات، فالرياض لا تريد إخلاء الساحة للمنافس التركي او الإيراني وتأمل من تأثيرها أن يحول دون إنعاش الدولة السورية.

لجهة إيران فتأثيرها في إدلب متمحور حول دعم الدولة السورية بمختلف الإمكانات وقدر المستطاع ربطاً بظروف الحصار والمقاطعات الأميركية على إيران.

فيتبقّى حزب الله المستعدّ لأداء أدوار عسكرية، لكنه يربطها بالحدود التي تسمح بها العلاقات الروسية التركية والإيرانية التركية، حول ضرورة الابتعاد عن التصادم المباشر مع الاحتلال التركي المنتشر في اثنتي عشرة نقطة في محيط إدلب، لكنه يلبي نداء الدولة السورية إذا طلبته للقتال الإدلبي.

فلا تتبقّى الا الدولة السورية صاحبة الارض والسيادة وهذه تقرأ كل المعطيات المذكورة فتشبعها تحليلاً وتمحيصاً وتتعامل بدقة واحتراف مع معظم معطياتها، لكنها تضع كل هذه الاهتمامات خلف مبدأ أساسي وهو أن إدلب أرض سورية لا تفاوض حول سيادتها وانتمائها، وتحريرها موضوع نهائي مرتبط بتوقيت تقرّره القيادة السورية وفق إمكاناتها وطبيعة الاستفادة من الظروف المحيطة والعناصر المتشابكة، إنما من اجل مبدأ وحيد وهو تحرير إدلب واستعادتها للوطن.

هذه القيادة تعرف بشكل إضافي أن إنقاذ إدلب يدحر الدور التركي في الغرب والشمال السوريين، فاتحاً إمكانية مجابهة الدور الأميركي بالمباشر في الشرق وقاعدة التنف في الجنوب. وهذا ما يتحاشاه الأميركيون العاكفون حالياً وبسرعة على بناء آليات مشتركة من كرد وعشائر عربية يجري تدريبها وتزويدها بأسلحة حديثة للزوم مجابهة الجيش السوري بتغطية أميركية.

إدلب اذاً هي أم القرى في الازمة السورية وتجذب اليها اهتماماً أوروبياً جشعاً وصل الى درجة ان الدنمارك ارسلت فصائل عسكرية الى شرق سورية بطلب أميركي، على الرغم أنها لا تكترث في العادة إلا لصناعة الأجبان والسكاكر والنقانق!

كيف يتمظهر الحرص الأميركي على مواصلة احتلال إدلب؟ قبل تشكيل اللجنة الدستورية بجهود حلف استانة سوتشي الروسي التركي الإيراني، بذل الأميركيون إمكانات هائلة لثني اردوغان عن الموافقة على تشكيلها، وذلك بالتلويح له بمنطقة آمنة عند الحدود مع سورية، عاملين أيضاً على دعم الإرهاب فيها بالسلاح مستنفرين الخليج لتمويله واوروبا لإطلاق حملة إعلامية ضخمة بذريعة الدفاع عن المدنيين في إدلب.

جرت هذه المحاولات مع مساعٍ أميركية لتحويل جبهة النصرة هيئة تحرير الشام حالياً القاعدة سابقاً من منظمة إرهابية وفق لوائح الامم المتحدة الى فصيل من فصائل المعارضة المعتدلة، لكن الروس والإيرانيين رفضوا بشدة هذه التسوية فلم تمرّ، لأنهم يعرفون ان هذا الإرهاب يسيطر على تسعين بالمئة من إدلب، ما يعني أن المحاولة الأميركية تريد الاستمرار باحتلال إدلب عبر تغيير لقب الإرهاب الى معارضة معتدلة.

لقد شكّل هذا الرفض سبباً لتحرّك أميركيّ ثلاثيّ: تجسّد بإرسال سريع لقافلة عسكرية أميركية من كردستان العراق إلى شرق سورية تحتوي على مئتي جندي أميركي وأسلحة صاروخيّة شديدة الفاعلية جرى إفراغها في قواعد أميركية في المنطقة.

وذهب التحرّك الثاني الى إظهار فرع قوي جداً بتشكيل اللجنة الدستورية مع التأكيد على مشاركة قوات قسد الكردية التابعة لهم فيها.

وهذا بمفرده اقتراح بوسعه تفجير اللجنة الدستورية لأن الأكراد يريدون تمثيلاً مستقلاً لن يطلبوه إلا بعد مباشرة الأمم المتحدة التفاوض معهم.

ما يؤدي الى عرقلة أعمال اللجنة او تراجع تركيا عن دورها فيها.

كما يكشف التحرك الثالث للأميركيين استشعارهم بوجود اتفاق روسي تركي على سحب الإرهاب من إدلب بشكل يبدأ بمحاولات تركية لفكفكة هيئة تحرير الشام وعزلها. وفي حال التعذر يتقدم الجيش السوري لمعالجة أمرها حتى ولو رفضت انقرة.

لذلك اتهم وزير الخارجية الأميركي بومبيو الدولة السورية بقصف بعض أنحاء اللاذقية المتصلة بإدلب بالكيماوي.

والطريف انه حدّد موعد الاعتداء السوري المزعوم في ايار الماضي، أي قبل ستة اشهر على الاقل، فلماذا يكشفه اليوم ولم يعلنه في حينه؟

بما يفضح سياسة هذا الاتهام واللجوء الأميركي اليه في أيام الأزمات والمحن.

بعد كل هذه التدخلات والمعطيات ألا تبدو إدلب أم القرى في المرحلة الرابعة من تحرير سورية؟

يعتبر الجيش السوري أن كل المناطق السورية المحتلة مستاوية في أهميّاتها لديه، لكن تحريرها مسألة مرتبطة بأولويات الحركة العسكرية المتقاطعة مع استراتيجيات القتال، ويبدو أن مرحلة إدلب قد حان قطافها لمصلحة كامل الوطن السوري، بشكل لن يعرقله هذيان كيماوي أو دلع عثماني وإرهاب اعتاد الاحتماء برعاته الدوليين والإقليميين.

فأهلاً بأم القرى يفتح تحريرها الطريق الى المناطق السورية المحتلة، وصولاً الى الدور السوري في الإقليم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى