تعولمت اللغة العربية على يديه… وامتلكت قاموسها الموسوعيّ معه الفكر التنويري وربط الفصحى بالمحكيّة
رنا محمد صادق
بطرس البستاني 1819 – 1883 ، أديبٌ فيلسوفٌ مترجمٌ وأكثر، ركن من أركان النهضة العربية، ورمزٌ من رموز الأدب والفنّ واللغة وقد حمل بجدارة لقب أبي التنوير العربي ورمز النهضة.
فكرياً هو المعلّم، اجتماعياً هو المناهض، وأكاديمياً هو الأديب، والأهم هو المشرقي العربي اللبناني، الذي كشف عن الحضارة العربية المشرقية وعلومها أمام العالم، ولم ينكفئ عن تقديم احتياجات اللغة كأسلوب تواصل وتعبير، على اعتبارها الأداة الأولى والوحيدة في ترسيخ إيديولوجية شعب ما، واللغة العربية مثالاً. ويقول: «إن اللغة التي تعبّر عن مفهوم واحد بكلمات عديدة، ولا تملك القدرة على التعبير بكلمة واحدة ووحيدة عن مفاهيم عديدة، لا يجب من حيث الجوهر اعتبارها لغة غنية، بل فقيرة».
هذا الكنز المعلوم جداً والغائب جداً حضر إلى المشهد الثقافي اللبناني بقوة في المئوية الثانية لميلاده عبر النشاط الذي انطلق عبر دعوة لتشكيل هيئة وطنية لإحياء المئوية الثانية لميلاده في مطلع العام توّج باجتماع حاشد لفعاليات سياسية وثقافية وفكرية ونقابية وتربوية، ترأسه نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، وتوج بإطلاق تشكيل الهيئة الوطنية لإحياء المئوية التي كلفت الفرزلي برئاستها، تمهيداً لاحتفالية المئوية التي، رعاها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وحضرها رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة سعد الحريري، في الأول من أيار الماضي، وشهدت إحياء فكر المعلم بمشهديات أدبية ممسرحة للأديب حبيب يونس ونشيد قدّمته الفنانة باسكال صقر، وحظيت أنشطة الهيئة والاحتفالية بتغطية إعلامية أعادت إدخال المعلم البستاني إلى الذاكرة الحية للبنانيين. وقد وقف وراء كل هذا النجاح جهد قادته بهدوء ومثابرة مجموعة صغيرة دعاها ونظمها ورعاها النائب فريد البستاني، وبدأت عملها منذ عام تقريباً.
خلال هذا العام الذي يُسمّى عام المعلم بطرس البستاني وينتهي في الأول من ايار 2020، تتواصل الإحياءات، ويحلّ يوم اللغة العربية العالمي بارداً دون النجاح في نقل إحيائه إلى يوم ميلاد البستاني أو يوم وفاته في الأول من أيار لكل عام أو الثامن والعشرين من تشرين الثاني لكل عام بدلاً من الثامن عشر من كانون الأول كيوم مقرّر من الأمم المتحدة، مع مواصلة المساعي التي بدأتها الهيئة ولقيت دعم الدولة اللبنانية على مستوى وزارتي الخارجية والثقافة، لكن البستاني الذي كان في نقطة مظلمة من الذاكرة صار تحت الضوء وتكاثرت المبادرات من مصادر عدة لحجز موقع تحت هذا الضوء، وهو ما ورد كمضمون نداء مفتوح في دعوة الهيئة للقطاعين العام والخاص للقيام بمبادرات تحتاج لإحياء ميراث المعلم إلى ما يزيد عن قدراتها وما هو أكثر من طاقة الهيئة وجهدها، وهكذا يمكن القول إن الهيئة أطلقت مناخاً واسعاً وشاملاً بدأ يثمر بمبادرات ومشاريع فتم وضع المدرسة الوطنية التي أسّسها المعلّم بطرس البستاني على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية بعد أن كان خطر هدمها هو الحدث الأبرز، إلى جانبه تحضير كتاب بعنوان «المعلم بطرس البستاني: تعليم النساء والآداب العربية» للدكتور حارث البستاني كتبه والده الأستاذ السابق في علم الأثريات وتاريخ الحضارات في الجامعة اللبنانية فؤاد افرام البستاني، وبعض التقارير الصحافية تتحدث عن مسعى لشراء المدرسة وإعادة إحيائها من قبل عدد من أقاربه تتقدمهم السيدة ميرنا البستاني، وقبل أيام احتفال في الجامعة اللبنانية الأميركية بالمناسبة وتحت العنوان ذاته لتقديم كتاب المعلم بطرس البستاني بقلمه لهيام جورج ملاط وتقديم الشاعر هنري زغيب.
المعلم البستاني وفي رحاب اللغة بين الفصحى والمحكية
اعتمد المعلّم على مفاهيم الصرف والنحو ودعا دائماً إلى تقريب اللغة الفصحى من اللغة العاميّة، الأمر الذي يحمي اللغة من التلاشي والموت. المعلّم كان على دراية أن تمكين اللغة وترسيخاً يحتاج إلى القبول، التداول والترسيخ، أي أن نقبل اللغة من خلال تقريبها إلى الناشئة، لا تصعيبها عليهم، تداولها بالمخاطبة والاستخدام في الأماكن الضيّقة، وترسيخها من خلال التكرار والإعادة على الدوام. ومن بين تلك التي تحفظ اللغة كأسلوب تواصل يصل إلى العالمية ويحميها من التلاشي هو التقارب بين اللغة العامية والفصحى، حيث يشدّد المعلّم بطرس البستاني على ذلك بقوله: «إذا لم تقترب الفصحى من اللغة الدارجة، فإن هذا سيؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها، إذ تصبح هذه اللغة ميتة بالنسبة للإنسان العربي المعاصر، كما حدث للغة اللاتينية عند الشعوب الرومانية، ولغة الكرابار الأرمنية القديمة عند الأرمن المعاصرين، أو لليونانية القديمة لدى أهل اليونان المعاصر».
ما طرحه المعلّم بطرس البستاني في محاضرة التي ألقاها في 15 شباط 1859 بعنوان «خطاب في آداب العرب» نموذجاً اليوم على تثبيت ما كان يدعو إليه، ففي ظلّ التجاذبات على الأرض والوجود وترسيخ المفاهيم الحضارية، تقوم النزاعات والخطابات الرنّانة القائمة بين المفكرّين العرب.
اعتاد المعلّم بطرس البستاني أن ينطق بالحقّ والحقيقة، وخاطب العقول العربية حينذاك ودعاهم للاستيقاظ من سباتهم، واستغلال مدارك العلوم والمعرفة في حقول التمدّن والتطور للاحتفاظ بالإرث العربي الحضاري في شتى الحقول التجارية، الأكاديمية التعليمية، العلوم والدراسات وغيرها…
وفي محفل ذلك يقول: «لا تيأس أيها الأخ العربي المعاصر ولا تضمر الحقد لمن ينطق بالحقيقة بل أودّ إيقاظك من سباتك العميق، واستنهاضك للاستفادة من العلوم المتطورة، لعلمي علم اليقين أنك أهل للقيام بهذه المهمة، وأعلم أن المستقبل المشرق الوضاء في انتظارك. فالمطابع والمدارس والمكتبات خير ضمانة لوصول أبناء الوطن الى برّ الأمان. ليس بعيداً ذلك اليوم الذي تتحوّل فيه الأماكن المقدّسة والأديرة إلى مدارس، كيف لا والجميع يشعرون من يوم لآخر بالقوة العظيمة الكامنة في العلم، ويدركون حقّ الإدراك أن المعرفة جوهر الحياة».
في سيرة المعلّم بطرس البستاني نغلق باباً ونفتح عشرات الأبواب، من المعرفة واللغة وحقل الأدب إلى التأريخ، حيث حقّق بذلك نتاجاً حضارياً عربياً ما قبل الإسلام دعا من خلاله إلى الحفاظ على هذا الإرث وتطويره واستغلال نقاط القوة لدى العرب.
جولة على أبرز موسوعاته في حقل التأريخ الحضاري العربي:
لمحة من كتاب «أدباء العرب في الأعصر العباسية»: مرَّت الدولةُ العباسيةُ بأحداثٍ جسامٍ أتاحت لها تنوّع الإنتاج الأدبي فقد مثَّل الأدبُ العباسيُّ انعكاساً للواقع السياسي والاجتماعي والديني حيث طالب العلويون بالخلافة، فانبرى عدد من الشعراء لتأييدهم مثل «دعبل الخزاعي»، كما أثَّرت الحياة الاجتماعيَة في التوجّهات الأدبيَة، فظهرت «الشعوبيَّة» كتعبير محليٍّ عن الثقافات الفرعية، وهو ما أثرى الحياة الأدبية. ويشتمل هذا الكتاب على خصائص أدب العباسيين وعلومهم، وميزات شعرائهم وكتَّابهم، مع استفاضة في نقد وتحليل بعض النصوص، وما ارتبط بها من أبعاد اجتماعيَّة وسياسيَّة وثقافيَّة، وتنبع هذه الاستفاضة كما يرى المعلّم من أن عصر حضارة العرب لم يُتَح له بعدُ البحثُ الشامل والدقيق الذي يُجلِّي حقائقه، ويكشف عن كنوزه، ويسبر أغواره.
كتاب «أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام» يجمعُ هذا الكتاب بين طيَّاته أشهر أدباء العرب في الجاهليَّة وصدر الإسلام، وقد وُفِّقَ المعلّم في توثيق هذه الفترة المِفصليِّة من تاريخ الأدب العربي، حيث تحدَّث بطرس البستاني في مُستهَلِّ كتابه عن العرب وغزواتهم، وعلومهم، وأحوالهم الاجتماعية والأدبية والسياسية، كما تطرَّق إلى الشعر في العصر الجاهليِّ وبحوره وأغراضه، وتناول أبرز وأهم الشعراء العرب وعلى رأسهم الشعراء المخضرمون الذين عاصروا فترتي الجاهليَّة وصدر الإسلام، واتسموا بالنفحة الدينية في أشعارهم، ثم انتقل المؤلِّف بعد ذلك للحديث عن الأدب الإسلامي بشِقَّيْه الشعر والنثر، مع تعرُّضه للأغراض الشعرية التي ازدهرت في ذلك العصر وذِكر مَنْ كتب فيها مِنْ فطاحل الشعراء.
هذه الحلقة الأولى عن سنة المعلّم بطرس البستاني، ضمن سلسلة مقسّمة إلى حلقات، حلقة في الأسبوع، كلّ حلقة ستعرض جانباً من جوانب إحياء مئوية المعلّم بطرس البستاني وأهميتها اليوم في إعادته إلى الذاكرة الوطنية كأرث تاريخي.
مصدر الكتب
– موقع مؤسسة «هنداوي»