الاستقلال اللبنانيّ… والشهيدان القوميّان سعيد فخر الدين وحسن عبد الساتر 2/2

لبيب ناصيف

لاحقاً في 27 نيسان 1944، سقط الدركي الرفيق حسن عبد الساتر شهيداً، دفاعاً عن العلم اللبناني المرفوع فوق قبة البرلمان، في مواجهة الجموع التي حاولت أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، مستغلة بذلك مناسبة الزيارة الأولى التي يقوم بها النائب المنتخب عن زغرتا يوسف كرم إلى البرلمان، للاستيلاء عليه وطرد النواب منه وإسقاط العلم اللبناني، عساهم بذلك يستعيدون عهد الانتداب الفرنسي.

عن هذا يوضح الأستاذ غسان التويني في الصفحة 206 من «كتاب الاستقلال» أن عناصر موالية لفرنسا ومدعومة من أجهزتها والأجهزة الخاضعة مباشرة لها، من جيش وأمن عام، استغلت مناسبة انتخاب يوسف كرم نائباً لمقعد نيابي شغر في الشمال، فسارت إلى البرلمان وتسلّق بعض الشباب إلى سطح المبنى لإنزال العلم اللبناني ورفع العلم القديم مكانه العلم الفرنسي وفي وسطه أرزة فتصدى الدرك للمحاولة وانتصر له بعض المؤيدين، فوقع نتيجة الحوادث خمسة قتلى وسبعة عشر جريحاً.

من ناحيته، يروي الأمين مصطفى عبد الساتر في كتابه «أيام وقضية» أن التظاهرة المسلحة الضخمة اجتازت، كما كان مخططاً لها، من زغرتا إلى بيروت من غير أية محاولة لاعتراضها. وبعدما صارت بحراً هائجاً تدفقت على ساحة النجمة في بيروت تهتف لفرنسا وليوسف كرم. وأصبح البرلمان والنفر القليل من رجال الأمن الذين يحرسونه، جزيرة صغيرة وسط بحر من الرجال الأشداء المسلحين. وانطلقت الشرارة عندما شك الزغرتاويون العلم الفرنسي على باب البرلمان وحاولوا إنزال العلم اللبناني عنه، تصدّى لهم الصحافي آنذاك نعيم مغبغب النائب لاحقاً وأطلق النار من مسدسه على محاولي إنزال العلم اللبناني وبدأت المعركة .

« كان الوضع يبدو ميؤوساً منه، وقد اختبأ النواب ورجال الحكومة والحضور في زوايا المجلس، لولا رجولة وبطولة رجال درك سيار بعلبك. أخذت الحماسة بحسن عبد الساتر الذي أخذ يحدو بصوته الجهوري متصدّياً ببطولة للمهاجمين مستثيراً نخوة رفقائه. لفت صوته العالي، وغزارة رصاصه، المهاجمين والفرنسيين المتركزين في بناية الهاتف المقابلة يطلقون منها النار على المدافعين، فأسقطوا حسن عبد الساتر برصاصة قاتلة. ولكن المحاولة فشلت وتراجع المهاجمون مندحرين ولفلفت الحكومة القضية في ما بعد! أذكر في عداد الدرك المدافعين صالح سيف الدين وضاهر مشيك وأبو ممدوح خالد الكردي، بقيادة الضابط عبد اللطيف حمدان على ما أعتقد « .

المأتــم

وعن مأتم الرفيق الشهيد حسن عبد الساتر يقول الأمين عبد الساتر في كتابه «أيام وقضية»:

«كنت آنذاك أقضي عطلة الربيع في بعلبك. استثارت المعركة البطولية واستشهاد حسن عبد الساتر عواطف البعلبكيين إلى أقصى حد. استقبلوا جثمانه خارج بعلبك بحشود غفيرة رافعـة الأعـلام اللبنانية الجديدة. وأمام سراي بعلبك، وقفت خطيباً لأول مرة أؤبن قريبي وأطري بطولته واستشهاده وأستثير النقمة على المستعمرين الفرنسيين وعملائهم داعياً إلى الثأر. لم يعجب تطرفي رئيس فرع الكتائب في بعلبك الدكتور أ. حايك، فانسحب من الحفل احتجاجاً.

« كان من المفروض أن ينقل جثمان الشهيد إلى مثواه الأخير في قرية إيعات. وكانت الطريق تمرّ حكماً أمام مركز الأمن العام الفرنسي بجانب هياكل بعلبك. وكانت الدائرة الوحيدة في بعلبك التي لا تزال ترفع العلم الفرنسي بعد أن كان الإنكليز قد قلّصوا النفوذ الفرنسي إلى حد بعيد.

«قبل دخول الجثمان إلى بعلبك حسبت للأمر حسابه وأعلنت رفضي بأن يمرّ الجثمان تحت العلم الفرنسي. كان رئيس المركز قريباً لي. اتصلت به ودعوته إلى إنزال العلم حتى لا نضطر إلى إنزاله بالقوة، الأمر الذي يسفر عنه مهاجمة المركز وإحراقه. حاول إقناعي، بروابط القربى، أن أعزف عن ذلك. وأصرّ كل منا على موقفه.

«استدعيت نفراً من الشبان المتحمّسين، قوميين وسواهم، وهيأنا الخطة لاقتحام المركز وإنزال العلم الفرنسي وإحراقه ساعة مرور الجثمان أمام المركز. وقد أظهر الشبان حماسة واندفاعاً في ذلك. ولكن عملية الاقتحام لم تجر لأن الأوامر جاءت من بيروت إلى مركز الأمن العام في بعلبك، بالموافقة على إنزال العلم وطيّه بالحسنى، وطي العلم. وبإنزاله طوي آخر علم فرنسي كان ما زال مرتفعاً في سماء بعلبك. ولم يبق من مظاهر السلطة الفرنسية فيها غير مركز ومنزل المستشار الفرنسي من دون أن يرفع على أي منهما أي علم .

« زاد ذلك في حماسة الجماهير التي حملت جثمان الشهيد على الأكف بموكب مهيب، مسافة خمسة كيلومترات إلى قرية «إيعات» حيث ووري في الثرى وسط احتفالات امتدّت أعراس بطولة على عدد من الأيام إلى ما بعد عيد الشهداء في 6 أيار «. حيث أقيم في سينما «الأمبير» في بعلبك مهرجان خطابي حاشد تكريماً للرفيق الشهيد.

بدورها أقامت عائلة عبد الساتر ذكرى الأربعين في بلدته «إيعات»، وجهت فيها الدعوات إلى قرى وبلدات المنطقة كما مدت ولائم الطعام الضخمة. ألقيت في المهرجان كلمات عديدة كان منها كلمة العائلة ألقاها المواطن جميل عبد الساتر .

كان الرفيق الشهيد حسن عبد الساتر طويل القامة، ممتلئ البنية وقويّها، جهوري الصوت، يغني العتابا بصوت جميل قوي يسمع إلى مسافات بعيدة جداً .

شقيقه علي موسى عبد الساتر كان في منتصف العشرينات دركياً في الهرمل. يوم اندلعت الثورة السورية وانضم إليها قسم من عشيرة الجعافرة بقيادة زين جعفر في جرد الهرمل، بمساعٍ وتحريض من سعيد العاص الرفيق الشهيد عام 1936 ونظير النشواتي. أخذ علي موسى عبد الساتر سلاح المخفر والتحق بالثورة، وناضل ببطولة مع الثائرين. ولما همدت الثورة اعتقل في بعلبك وأمضى سنوات طويلة في سجن بيت الدين إلى أن خرج منه بعفو سنة 1936 مريضاً مصاباً بأمراض عصبية ألحقت بأطرافه العليا رجفة دائمة.

أبرزت جريدة «النهار» في عددها الصادر في 28 نيسان 1944 خبر الحادث أمام البرلمان، فأوردت التالي: « ثبت أن النائب يوسف بك كرم قدم من طرابلس ومعه سيارتان من رفاقه فقط. وثبت أن جماعات كانت تنضم إلى هاتين السيارتين في الطريق ثم تندس جماعات غيرها في الموكب كلما تقدم في السير حتى إذا وصل إلى مدخل بيروت كانت جماعات عديدة في انتظاره ، كأنها كانت على موعد» .

لم تمنح الدولة اللبنانية الشهيد الرفيق حسن عبد الساتر ميدالية، ولا هي أدرجت اسمه في عداد شهداء قوى الأمن، ولم يصلنا أنها ذكرته يوماً عند الحديث عن معركة الاستقلال .

الشهيد حسن عبد الساتر أسقط العلم الفرنسي عن قبة البرلمان وسقط.

نشر الصحافي عمر صلح في جريدة «المستقبل» بتاريخ 21/11/2003 تحت العنوان أعلاه، المقال الآتي:

حسن موسى عبد الساتر، من أوائل شهداء الإستقلال في لبنان. لم يقبل فكرة الراحة من عناء الرحلة التي جاءت به الى بعلبك من طرابلس عبر حمص، فالتحق فوراً بالفوج الذي كان متوجهاً الى بيروت في أواخر نيسان من العام 1944، وسقط شهيداً على قبة مجلس النواب، عندما كان ينزع العلم الفرنسي ليضع مكانه العلم اللبناني.

ضريح الشهيد عبد الساتر في إيعات لم يتلق أكاليل الزهور منذ زمن طويل، ولم يحظ بزيارات المسؤولين، حتى في مناسبة الاستقلال، رغم مواكب الرسميين تمر على بعد مئتي متر من ضريحه في المناسبات الوطنية الكبرى، في اتجاه الهرمل لتضع الأكاليل على ضريح الرئيس الراحل صبري حمادة.

وزارت «المستقبل» عائلة الشهيد عبد الساتر في بلدة إيعات، والتقت شقيقه محمد الذي يتحدث بكل فخر واعتزاز عن بطولة حسن ورجولته وصفاته.

ويقول: كان أخي حسن يخدم في فرقة الخيالة التابعة لفصيلة درك بعلبك، وكان قوي البنية، طويل القامة، ومن أكثر الصفات المعروفة عنه، قوة صوته.

ويضيف، كان وطنياً بكل معنى الكلمة. عند عودته من مهمة من طرابلس عبر مدينة حمص الى بعلبك، ولدى وصوله الى الثكنة، صدف أن فوجاً يتهيأ للذهاب الى بيروت، بعد ورود أخبار عن حوادث تشهدها العاصمة، فكان أول الملتحقين بالفوج، علماً أن الضابط المسؤول أعفاه من تلك المهمة، نظراً الى المسافة الكبيرة التي قطعها خلال عودته من طرابلس، لكن حسن رفض الفكرة ورافق الفوج الى بيروت من دون أن يعرّج على منزله ويتفقد زوجته وابنته. ويتابع: حدّثني أحد أصدقائه في الفرقة، وهو ملحم العريبي، أنهم عندما وصلوا الى ساحة البرج هرب عدد من العناصر نتيجة الفوضى وإطلاق الرصاص العشوائي، لكن حسن بدأ ينشد بصوته الرخيم أغاني وأناشيد وطنية لحث رفاقه على البقاء في أماكنهم، فاستجاب العديدون، وعندها تسلّق حسن الى أعلى مبنى مجلس النواب وانتزع العلم الفرنسي. ولحظة وضع العلم اللبناني، دوى الرصاص مجدداً، فإذا بحسن يسقط جريحاً والعلم اللبناني يرفرف بين يديه. فنقل الى مستشفى أوتيل ديو ليفارق الحياة في اليوم التالي، وذلك في 28 نيسان 1944.

نشرت جريدة «النهضة» في عددها 231 تاريخ 29 نيسان 1954 الكلمة الآتية:

الدم القومي في كل مكان ذكرى 27 نيسان 1944.

في 27 نيسان من سنة 1944، استغلت العناصر الفرنسية وأتباعها في لبنان انتخاب النائب يوسف كرم، فبيتّت مؤامرة لقلب الحكم في لبنان عن طريق مظاهرة كبيرة مسلحة انحدرت من الجبال والعاصمة لمرافقة النائب المذكور وإدخاله البرلمان دخول الفاتحين وهي تهدف من وراء ذلك الى احتلال المجلس واغتيال بعض النواب والشخصيات السياسية وإنهاء عهد الاستقلال لإعادة عهد الإستعمار الفرنسي وكادت المؤامرة تنجح، بعدما رفع المتظاهرون العلم الفرنسي على المجلس، لو لم تتصدّ لهم فئة ضئيلة من الجند والمواطنين، وكان على رأسها وفي طليعتها بالطبع، كما هو الحال دائماً، من رفعت العقيدة القومية الاجتماعية نفوسهم من حضيض الذل الى قمم العزة والمجد.

وبرز الدركي حسن موسى عبد الساتر، القومي الاجتماعي، يردّ بعزيمته الجبارة وصدره الواسع وقلبه الكبير، في قلة من رفاقه لم تتجاوز العشرة بعدما فرّ سائر أفراد القوة ورجال الشرطة وانضم بعضهم إلى المهاجمين، برزت هذه القلة المؤمنة، فأحبطت المؤامرة وتصدت للجماهير المندفعة وردّتها على أعقابها خاسرة… وكان صوته الجهوري العظيم يرتفع وسط لعلعة الرصاص ودوي القنابل محمساً رفاقه، داعياً الى الصمود.

ولفت صوته والرصاص المنهمر أنظار المتآمرين وأسيادهم المتمترسين في بناية التلفون وسواها، وبطبيعة الغدر القذرة سقط عليه الرصاص من الخلف حيث لم يكن ينتظره من بعض رجال الأمن أو من المتمركزين في البناية العالية، فهوى صريعاً يتخبط بدمه. وبعدما حقق النصر وأدّى دمه الغالي الرسالة التي نذر كل قومي اجتماعي نفسه لتأديتها من سعيد فخر الدين الى الزعيم الخالد الفادي، الى سلسلة كريمة من الشهداء إفتتحت في ميدان العطاء والإستشهاد صفحات لن تنتهي حتى نحقق لهذه الأمة الناهضة المجد والعز والرفعة.

ولم يطلب حسن عبد الساتر في استشهاده جزاء ولا شكوراً، كما لم يطلب من قبل سعيد فخر الدين ولا أي شهيد سوري قومي اجتماعي، لأن الاستشهاد في عرف السوريين القوميين الاجتماعيين، واجب وعطاء عبّر عنهما زعيمهم الخالد عندما قال: «كل ما فينا هو ملك للأمة حتى الدماء التي في عروقنا هي ملك الأمة متى طلبتها وجدتها « .

ولم ينل حسن عبد الساتر وغير حسن عبد الساتر، بالطبع على يد سلطات العهد الماضي جزاء ولا شكوراً بل على العكس، فقد عمدت تلك السلطات في سياستها الهدامة الى لفلفة التحقيق، والى إضافة ثمن الدم الغالي الذي ما سال إلا ليروي أرض الوطن العطشى الى دماء الأبطال وأساطير البطولة.

بلى، لقد نال رفقاء حسن عبد الساتر ومعلمه في ما بعد، على يد السلطات نفسها الجزاء: جزاء سنمار. ولكن تلك السلطات، زالت وبقيت الأمة، الأمة التي في سبيل مجدها وحدها دون سواها بذل السوريون القوميون الاجتماعيون دماءهم الغالية وهم ما زالوا على استعداد للبذل كلما دعت مصلحة الأمة ذلك، ولسان حالهم في كل طور من أطوار الاستشهاد تقول: « نقضي. إن تمدّ جسومنا جسراً … فقل لرفاقنا أن يعبروا «.

-ولد الرفيق حسن موسى عبد الساتر في إيعات بعلبك عام 1909 .

-اقترن من السيدة زينب عبد الساتر، ولم يرزقا أولاداً .

-التحق بسلك الدرك اللبناني .

-انتمى إلى الحزب في منفذية بعلبك عام 1942 .

-أصيب أمام البرلمان اللبناني في ساحة النجمة، بتاريخ 27 نيسان 1944 واستشهد في اليوم التالي، 28 نيسان، في مستشفى أوتيل ديو في بيروت.

اكتفينا بالاضاءة الموجزة على «معركة الاستقلال» إذ نحن لسنا في مجال الحديث عن موضوع الاستقلال بكل ما رافقه من اتصالات سياسية، ومن ضغوط مارسها الجانب البريطاني بشخص الجنرال سبيرز، والتي لولاها لكان من غير السهل أن ينال لبنان استقلاله في تلك الفترة. الصراع على النفوذ بين بريطانيا وفرنسا الذي جعل بشارة الخوري يفوز على إميل اده الفرنسي الميول والاتجاه في رئاسة الجمهورية، جعله أيضاً يحسم معركة الاستقلال اللبناني.

رئيس لجنة تاريخ الحزب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى