الديموكتاتوريّة الأميركيّة
شوقي عواضة
تحتَ تمثالِ الحريّةِ في نيويورك ترقدُ عذاباتِ المقهورينَ وآلافِ المضطهدينَ من المواطنينَ السّودِ وحكاياتِ الملايين من الهنودِ الحمرِ السّكّانِ الأصليينَ لأميركا، كلّ تلك المآسي المخفيةِ خلفَ ناطحاتِ السّحابِ قد تبدو بشكلِ بيوتِ نملٍ صغيرةٍ من أبراجِ نيويورك الشّاهقةِ وغيرها من المدنِ لكنّها في الواقعِ هي أحياءُ الفقراءِ والمواطنين السّود من الدّرجةِ الرّابعةِ. وبالرّغم من ذلك تتشدّقُ الإدارةُ الأميركيةُ بالحريّةِ وحقوقِ الإنسانِ فما هي حقيقةُ تلك الحريةِ والدّيموقراطيّة التي يدّعيها البيتُ الأبيضُ في كيانٍ قامَ على أشلاءِ السّكّانِ الاصليين من الهنود الحمرِ من خلال حملاتٍ للعصاباتِ الغازيةِ على طريقةِ العصاباتِ الصّهيونيّةِ شتيرن والهاغاناه حين غزوا فلسطين، تلك أميركا التي قامت على أشلاءِ الهنودِ فأبادت 10 ملايين هندي لم يبقَ منهم سوى 238000 كما ذكر الدّكتورُ منير العكش الأستاذ بجامعة سفولك الأميركية في كتابِه أميركا والإبادات الجماعيّة .
بتلك الحضارةِ قامت الولاياتُ المتحدة الأميركيّة حضارة القتلِ والذّبحِ والتّعذيبِ والتّنكيلِ ومصادرة الأراضي وإبادة شعبٍ بأكملِه. أمّا الكاتبُ سكوت كريستياتسون فيقولُ في كتابِه 500 عام من السجون فى أميركا إنَّ أميركا هي الدّولةُ الثّانيةُ فى العالمِ التى تضعُ أكبرَ عددٍ من مواطنيها وراءَ القضبانِ الحديديّةِ، مضيفاً أنّ حقوقَ الإنسانِ فى أميركا تعنى دعمَ الأنظمةِ الدّوليّةِ الحليفةِ لها حتّى وإن كانت ديكتاتوريّةً، طالما أنّها لا تمسُّ بمصالحها، تلكَ هي الدّيموقراطيةُ الأميركيّةُ التي لا زالت حتى الآن تقمعُ المواطنينَ السّودَ وتعتقلُهم وتقتلُهم لا لشيءٍ إنّما لأنّهم سودٌ فقط. أمّا إذا أردنا أن نتحدّثَ بالأرقامِ عن المهمّاتِ الإنسانيّةِ الأميركية التي قامت بها من أجل تحقيقِ الدّيموقراطيةِ وحقوقِ الإنسانِ فقد خاضت الولاياتُ المتحدة الأميركيّةُ منذ ما بعد الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ 75 عدواناً وتدخّلاً عسكرياً ودعماً لانقلاباتٍ عسكريّةٍ قامت بها الولايات المتحدة فى مختلفِ دولِ العالمِ من أجلِ مصالحِها ومصالحِ إسرائيل وليسَ من أجل الدّفاعِ عن حقوقِ الإنسانِ وتحقيقِ الدّيموقراطيةِ المزعومةِ والتي لم تحقّقها لمواطنيها.
هي سياساتُ الإداراتِ الأميركيّةِ المتعاقبةِ التي لا زالت تلتزمُها واشنطن حتى اليوم والتي كان من ثمارِها في 17 أيلول/ سبتمر عام 2011 حين انطلقت مظاهراتٌ في شارعِ وول ستريت في نيويوركَ في غمرةِ ما يُسمّى بـ الرّبيع العربي الذي كان صناعة أميركيّةً إسرائيليّة بامتياز. وتحتَ اسمِ حركة احتلوا وول ستريت خرج المئاتُ من المتظاهرينَ الأميركيين للمطالبةِ بالتّغييرِ أسوةً بالرّبيع العربي فتمَّ تطويقُ المتظاهرينَ واعتقالُ البعضِ منهم، وخلالَ أيّامٍ بدأ عددُ المتظاهرينَ يرتفعُ وأصوات الاحتجاجِ تتعالى لا سيّما من الأقليّات التي لا تراعى حقوقَها، فقامت الشّرطةُ الأميركيّةُ باقتحامِ تجمّعِ المتظاهرينَ وقمعِهم بخراطيمِ الماءِ والقنابلِ المسيّلةِ للدّموعِ وسقطَ العديدُ من الجرحى وتمّ اعتقالُ 700 من المتظاهرينَ. حينها لم تصدر أيةُ سفارةٍ عربيّةٍ أو أجنبيّةٍ أي بيانٍ يطلبُ من البيتِ الأبيض احترامَ حقِّ التّظاهرِ والتّعبير عن الرأي، تبع ذلك عام 2014 اعتقالُ العشراتٍ من المتظاهرينَ الذينَ خرجوا للتّنديدِ بعنفِ الشّرطة بحقِّ المواطنينَ السّودِ حيث قُتِلَ مواطنونَ سودٌ على يدِ شرطيينَ بيضٍ لم يتمَّ ملاحقتُهم قضائيّاً. واليوم تستكملُ إدارةُ ترامب سياسةَ أسلافِه في سبيلِ تحقيقِ الدّيموقراطية ديموقراطية غوانتانامو وسجن أبو غريب وديموقراطية داعش والنّصرة التي تتحوّلُ فيها سفاراتُ الولايات المتحدة الأميركيّة في عواصمِنا إلى غرفِ عمليّاتِ تديرُ عمليّاتِ التّخريبِ كما يحدثُ الآن في العراقِ من مظاهراتٍ ظاهرها حقوق مطلبيّة وباطنها مخطط شيطانيّ أميركي ينفّذُه بعضُ المندسين بينَ صفوفِ المتظاهرينَ أصحابِ المعاناةِ الحقيقيّةِ للشّعبِ العراقيِّ الذي يعاني أزمةً اقتصاديّةً حادّةً كما تعاني منطقتنا العربية لأسبابٍ عديدةٍ منها: الفسادُ والبطالةُ وتراكمُ الأزماتُ الاقتصاديةُ نتيجة الخللِ في الأداءِ للحكوماتٍ المتتاليةِ أو لأيةِ أسبابٍ أخرى هي معاناةٌ على مستوى المنطقةِ ككلٍّ لا سيما تلك الدّول التي سجّلت انتصاراتٍ على أميركا وحلفائها من اليمنِ الى العراقِ وسورية ولبنانَ وفلسطين إضافةً إلى الحصارِ الذي تشهدُه تلك الدّولةُ بعد هزيمةِ الحلفِ الأميركيّ، لكن بالرّغم من المعاناةِ التي نعيشُها جميعاً لا بدّ من معالجةِ المشكلةِ بطريقةٍ أفضلَ تحقّقُ للنّاسِ مطالبَهم وتعطيهم حقوقَهم وبشكلٍ لا يخدمُ أهدافَ أميركا وحلفائها في المنطقةِ ولو بغير قصدٍ. وثمّة أمورٍ تجري في بغداد تدفعُنا للتّساؤلِ لماذا لم تلتزمِ الولايات المتحدة الأميركيّة باتفاقياتِ جنيف وممارسة العمليّة الدّيموقراطية على أراضيها في حين تكون أول من تدينُ العنفَ وتؤيّدُ التّظاهرَ باعتباره حقّاً للمواطنين من مصر إلى كلّ الدّولِ التي تآمرت عليها تحت عنوان الرّبيع العربي توالت بياناتُ السّفاراتِ الأميركيّة في تلكَ الدّولِ وآخرها البيان الذي أصدرته السّفارةُ الأميركيّة في بغداد والذي أعربت فيه عن أسفها لاستخدام العنف ضدّ المتظاهرينَ، مشيرةً إلى أنّها تواصلُ مراقبتَها عن كثبٍ للاحتجاجات.
ما يثيرُ الاستغرابَ أنّ أميركا تدينُ العنفَ ضدّ المتظاهرينَ في العراقِ أو في أي بلدٍ عربيّ فيما تبيحُ ذبحَ وقتلَ اليمنيين على مدى خمسِ سنواتٍ من العدوانِ، كما تبيحُ لنفسِها استعمالَ العنفِ ضدّ مواطنيها حفاظاً على أمنِها وسياستها، والسّؤالُ الأهمُّ في ما يخصُّ العراق إذا كانت الحركةُ مطلبيّةً ومحقّةً لماذا تتسابقُ أبواقُ الإعلامِ المتأمرك لا سيّما السّعودي منها إلى إظهارِ الصّورةِ بأنَّ هناك صراعاً مذهبيّاً وطائفيّاً؟ ولطالما أنّ مطالبَ المتظاهرين اجتماعيّةً لماذا يهتفُ بعضُ المتظاهرين ضدّ إيران والحشد الشّعبي؟ وما علاقةُ إيران المحاصرة من قبل الإدارةٍ الأميركيّة بالأزمةِ الاقتصادية في العراقِ أو غيره؟ ألم تدفع إيرانُ ثمنَ مواقفها في دعمِ محورِ المقاومةِ العربيّة من فلسطين إلى صنعاء؟ ولماذا يحرق العلم الإيراني وصورة السيد علي الخامنئي في مشهد يذكرنا بحرق علم سورية وحزب الله في درعا مع بداية ما يسمّى بالربيع العربي ! وهل الحركةُ المطلبيّةُ تستدعي إسقاطَ حكومةِ عادل عبد المهدي الذي رفض الانصياعَ للأوامر الأميركية بحلِّ الحشدِ الشّعبيّ والذي رفضَ أن يكونَ العراقُ جزءاً من العقوباتِ الأميركية المفروضةِ ضدّ إيران وأيّ شعبٍ آخر؟ مع العلمِ أنّ الأزمةَ الاقتصاديّة في العراق أو في لبنانَ أو في أيّ بلدٍ تعرّض لعدوانٍ أميركيٍّ صهيونيٍّ إرهابيٍّ ليست بجديدةٍ، ونحن لا نبرّرُ للأزماتِ، فلماذا تمّ تحريكُ الشّارعِ العراقيّ الآن بعد عمليّةِ «نصر من الله» في نجران، وبعدَ فتحِ معبر البو كمال؟ ذلك السّؤال الأهمّ الذي يضعنا أمام حقيقةٍ واحدة تقولُ إنّ أميركا وحلفاءها يصدرون هزائمهم بحثاً عن أيّ انتصارٍ ولو كان صغيرا وبلا خسائرَ لهم، فليقاتلوا بنا من جديدٍ بعد الهزائمِ المتتالية التي تلقّاها الأميركي وحلفاؤه من السّعودية والكيانِ الصّهيوني ومن معهم ندركُ يقينا أنّه بعد انتصارِ العراق بجيشِه وشعبِه وحشدِه ومضيّه نحو الاستقرار سيشكّلُ قوّةً كبيرةً لا يستهانُ بها، لا سيّما على مستوى بعض فصائلِ الحشدِ الشّعبيّ التي أعلنت مراراً وتكراراً أنّها جزء لا يتجزّأ من محورِ المقاومةِ ليأتي الرّدُّ الصّهيونيّ سريعا بالإغارةِ على قواعدَ ومخازنِ أسلحةِ للحشد الشّعبي في العراق بالطّيران الحربيِّ ممّا جعل العدوَّ يترقّبُ عمليّةَ الرّدِّ الذي كانت تناقشُه الحكومةُ العراقيّةُ مع قياداتِ الحشدِّ، لذا كان لا بدّ من إشعالِ وإشغالِ السّاحة العراقيّةِ بمعاركَ جانبيّة تجعلُ العراقيينَ يصرفونَ النّظرَ عن أيّةِ عمليّةِ ردٍّ، وبالتّالي فتح السّاحة العراقيّة أمامَ التّنظيماتِ الإرهابيّة من داعش وغيرها من خلال التّغلغلِ وسط المتظاهرين وتنفيذِ اكبر عمليّاتِ تخريب والإيقاع بينَ القوى الأمنيّة والمتظاهرين وتعميمِ الفوضى للوصولِ إلى السّيطرةِ الكاملةِ على الأرض وتنفيذ المخططِ الأميركيّ من خلال رسمِ خطوطِ فصلٍ ما بينَ إيران وسوريا في ظلِّ ما حققه الجيش السّوري من انجازاتٍ وانتصاراتٍ، لا سيّما فتح معبرِ البو كمال وهو الخطُّ الأخطرُ الذي يقلقُ الكيانَ الصّهيونيَّ وأميركا لما يشكّلُه كخطّ إمداد من إيران إلى العراق فسورية ولبنان وفلسطين، وبالتّالي فإنّ الأميركيين وخلفهم الصّهاينة ونظام آل سعود يسعونَ لعدمِ استقرارِ المنطقةِ بل يريدونَ إشعالها وتصعيدَ المواجهةِ في الأشهرِ القادمةِ لا سيما في ظلِّ الانتصاراتِ التي حقّقَها الجيشُ اليمنيُّ واللّجان الشّعبيّةُ في نجرانَ وغيرها، ومع تزايدِ الانتصاراتِ الميدانيّة في سورية واليمن والعراق، ومع تنامي قدراتِ الجيشِ اليمنيِ واللّجان الشّعبيةِ يزدادُ القلقُ الأميركي الصّهيونيُّ السّعوديُّ من اقتراب حسمِ المعركةِ، وكلّما اقتربَ الحسمُ لصالحِ محورِ المقاومةِ كلّما اقتربت أكثر معركةُ زوالِ الكيانِ الصّهيونيّ والأيّامُ القادمةُ ستثبتُ انكفاءَ الحلفِ العدوانيّ الأميركي من منطقتِنا، فالسّيفُ أصدقُ إنباءً من الكتبِ.
كاتب وإعلامي