وتبقى صباح… الفنانة الأسطورة في زمن الشحّ العربي

د. سلوى خليل الأمين

الفن رسالة عظيمة، بل هو ثقافة متميّزة وحضارة تبصم تاريخ الأوطان ببصمات الرقيّ والتطور المتطلع دوماً إلى بلوغ القمم، ولبنان، الذي تميّز بأنه وطن الإشعاع والنور، قدّم خلال تاريخه كمّاً نوعياً من الفنانين العمالقة والموسيقيين العباقرة، الذين طبعوا لبنان بتاريخهم المبدع المجيد، من الأخوين عاصي ومنصور الرحباني ومعهما الكبيرة فيروز، الذين رفعوا رايات لبنان الإبداع والفن الراقي المتألق إرثاً نتباهى به، مرفوعاً على ذرى المجد الذي جُبل بحب الوطن وعشق الضيعة وقمر العشيات والغربة اللامستحبة المعطوفة على مسارات الفلولكلور اللبناني المنتشر عبر العالم بإيقاعات خطواته الضاربة بأقدام هدّارة فوق تراب الوطن وعلى دروب الشموخ، إضافة إلى ترجمته رسالة أحادية الهوى والمنطلق أطلقت أغاني العتابا والميجانا والدلعونا السارية المفعول، حتى يومنا هذا، في أذهان الناس ومع كلّ لبناني مهاجر، والمتنقلة بنفس الزخم من جيل إلى جيل، حاملة مشهديات الحياة القروية الجميلة التي مجّدت صورة لبنان عبر العصور، وصولاً إلى وديع الصافي ونصري شمس الدين وتوفيق الباشا وزكي ناصيف ونور الهدى وسعاد محمد ووليد غلمية وسعيد عقل وغيرهم من عمالقة الفن الذين أضافوا إلى مجد لبنان وصحائفه التاريخية والتراثية مجداً لن يزول برحيلهم إلى ملكوت الرب العزيز الكريم.

كانت الشحرورة الراحلة صباح، إحدى زهرات ذاك الزمن النيّر المتميّز بإبداعات فنانيه وفناناته، فقد كانت المطربة المتألقة على الدوام، والممثلة الناجحة والمبدعة في مختلف الأدوار التمثيلية، والأسطورة الاستعراضية، ونجمة المهرجانات اللبنانية والعالمية المتميّزة، بل هي الصوت الصاعد من عمق الوديان، مغرّداً «الأوف والميجانا» عبر صوت قدّت أوتاره من جلمود صخر حطه السيل من عل، فكان صوت الصبوحة أنيس الليالي الملاح، والصباحات الندية، وعشيات السمر والسحر، وطيب المذاقات، وزهو «أيام اللولو» و إشراقة «شمس العيد» وكلّ الديار، حين تصدح مفاخرة ببلدها: «تعلى وتتعمّر يا دار».

كانت بالفعل ابنة الضيعة الجبلية، وابنة لبنان التي أحبت ديار العرب من مصر إلى سورية وفلسطين والعراق وكلّ الديار الناطقة بلغة الضاد، تاركة العنان لصوت يصدح بقوة الحب، يحاكي قمم الجبال، وطريق العين، والطير الطاير، وهمسات العاشقين والمحبّين، ودقة المجوز والدبكة على ساحة الضيعة بالمختصر غنّت الوطن بكلّ قيمه وعاداته ومجالسه وتراثه الشعبي وخصوصياته، فكانت بحق الفنانة الأسطورة، التي لوّنت زمن الشحّ العربي بذكريات نفيسة، لا يدمّرها الغياب ولا مسارات الدهور المؤلمة، وحوليات النفس المتألمة، ولا تسقطها من الوجدان الأجندات اليومية ومشهديات العقوق من الدولة العلية، التي لم تسع لتكريمها في الحياة كما يجب.. وكما تستحق.

وهنا ربما يغني المثل عن الكلام، حيث بالأمس وقف أكبر رئيس دولة في العالم، أقصد باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأميركية مكرّماً بعض كبار الفنانين الأميركيين ومنهم الممثلة ميريل ستريب قائلاً وهو يقلدها أرفع وسام أميركي: أنا أحبّ ميريل ستريب وميشال «يعني زوجته» تعرف هذا، طبعاً هو يقصد تمثيلها الفني الراقي، أستعيد هذه الصورة العالمية المشرقة كي أقول: لماذا لا يتشبّه رجالات الدولة في لبنان بتكريم المبدعين والمبدعات ويتركون الأمر على عاتق الجمعيات المدنية، التي منها من يقوم بالفعل إكراماً للبنان ودوره التنويري المهم عبر العالم، ومنهم من جعلها تجارة رابحة تفرض على المكرّم دفع بدل تكريمه وهذا مسيئ جداً للقيم الأخلاقية اللبنانية والوطنية، وهنا يجب ألا يتساوى الجيّد مع المستغلّ، وذلك وفقاً لحسابات سياسية وطائفية ومذهبية ومناطقية كما يحدث حالياً في لبنان.

إنّ استعادة الصورة المشرقة لزمن لبنان الجميل، الذي كانت صباح فنانته العظيمة وترياقه في الغناء والتمثيل، وحتى في الوطنية الصادقة التي جعلت نبرات صوتها نشيداً دائماً لوطنها لبنان، لهو الفعل المتطوّر الذي يجب أن تعمل على إبراز صوره وزارة الثقافة اللبنانية من خلال التعاون والتنسيق مع المؤسسات والجمعيات التي أدّت دورها الوطني على الساحة الثقافية بإخلاص ووطنية مشرّفة ومتميّزة.

لهذا كله، يبقى التاريخ الجميل والعريق والثابت مدى العصور، هو للإبداع والتميّز، من هنا ستبقى الفنانة الأسطورة صباح، المطربة اللبنانية والفنانة العربية التي تذكرنا بقول لأنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، يمجد في مضمونه الفن والموسيقى بتوصيفهما لغة الفكر والإنسانية التي تنبت سنابلها المتخمة بالعطاء في زمن الشحّ واليباس، حيث يقول: «… ليست الموسيقى لغة العواطف وحسب، بل هي لغة الفكر والإنسانية والفهم أيضاً، إنها لغة النفس الإنسانية بكلّ ظواهرها وبواطنها». ثم يعود ليقول: «… لم ينتدب الله أحداً على الأرض ليقوم بالحشر والحساب نيابة عنه».

المقصود أنّ الفن بكلّ مندرجاته لغة معرفية حضارية راقية، وهو الانفتاح على الحياة بأسلوب يرفع النفس إلى مستويات جديدة، تمكنها من إدراك الوجود ومشتقاته وخصائصه، بحيث لا يمكن الفصل بين أدبيات الحياة السياسية أو الثقافية أو الفنية إلا من خلال ما ينتج من إبداع، يبقى مدى الدهر إرثاً مطوّقاً بالمجد الذي يطبع مسيرة من عانوا وتعثروا وظلموا وتعبوا ثم انتصروا بعطاءاتهم المخلدة أبد الدهر إرثاً قيّماً لا تذروه رياح التغيير والتبديل والعصور المتقلبة.

لهذا ستبقى الشحرورة صباح رغم الغياب في ذاكرة جيلنا ومن سبق، أنشودة الدهر الجميل الذي منحنا الفرح عبر أغان متنوعة صدح بها صوتها، ولم تقتصر فقط على الدلع والحب، بل تعدّتها إلى محبة الأبناء والبنات والوطن وألوان الطبيعة وأزهارها الخلابة «عالليلكي»، وثمارها المتنوعة «مشمش بعلبك» والشمس المشرقة، وآثار لبنان التراثية الحضارية، وغيرها من الأغاني التي سطرت عاداتنا وتقاليدنا وعفوية الضيعة والدبكة اللبنانية و«جيب المجوز يا عبّود»، إلى ما هنالك من أغان ستبقى على مرّ الزمان زبدة الحياة المولعة بفرح الهنيهات.

يبقى علينا الاعتراف أننا وبكلّ فخر عشنا عصر الأسطورة صباح كما عصر الرحابنة ووديع الصافي ونصري شمس الدين وتوفيق الباشا وزكي ناصيف ووليد غلمية وجورج جرداق وجوزيف حرب وغيرهم من الكتاب والفنانين والشعراء والموسيقيين الذين رفعوا اسم لبنان إلى سدرة المنتهى… دون منة من أحد ودون دعم من مال خليجي أو أميركي… دعمهم الوحيد حبّهم للبنان الوطن الذي لم يذبحوه على محراب أنانياتهم الخاصة أو خزائن بيت مالهم، فقد ماتوا فقراء لا يملكون من الدنيا شروى نقير بعكس المتاجرين بأراواح الناس الذين يدمّرون ويقتلون ويذبحون باسم الدين والتحيّز الأعمى للدولار.

هنيئا لك صباح رحلتك الرائعة إلى السماء، أردتها رحلة فرح، لأنك كنت المحصّنة بالفرح الذي رميته أغماراً على وطنك لبنان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى