«إبحار على متن كلمة» لعلي أبي رعد… خلاصة تجارب وتعبير عن الكنونات

د. طوني كرم مطر

بعد تصفحي لكتاب خواطر حكمية للأستاذ علي أبي رعد، يقع الكتاب في 223 صفحة صادر عن دار ناريمان للنشر والطباعة والتوزيع تحت عنوان مميّز «إبحار على متن كلمة»، والعنوان يحمل في طياته إبداعاً وانزياحاً شاعرياً، الإبحار للبحر وقد جعله الكاتب هنا على متن الكلمة، وكأني به يدعو القارئ لجولة سياحية بحرية على متن سفينة الكلمة.

وفي تعريف الخواطر عند أبي رعد فإنّ خواطره الجميلة والرقيقة، الحكمية والمعبّرة هي خلاصة تجارب إنسانية، وتعبير عن مكنونات نفسه بصدق قلبه وعقله ونظافة كفه ولسانه.

علي أبي رعد أمسك قلمه وترك لقلبه وروحه وعقله ووجدانه العنان في التعبير دون شروط او قيود ودون أحكام، وكانت هذه الخواطر تنشر حين صدورها عنه على صفحته الشخصية في الفيس بوك، وهذه الخواطر من حيث حكمي عليها فليس واجبا عليها أن تلتزم بقافية أو وزن او بلاغة او أيّ شيء آخر.

وفي المجمل فإنّ ما يجمع بينها تناسق في اللحن والكلمات كتعبير عن أحاسيسه بسلاسة وطلاقة، عما خطر في عقله وقلبه، ولم يتقصّد علي أبي رعد النحت اللغوي، بل عمد إلى التركيز في كلّ خاطرة الإشارة الى موقف أو قضية معينة.

واللافت عنده استخدام العبارات لغير معناها الأصلي، وهذا ما يسمّى في النثر والشعر مجازاً لغوياً، وقد وصل إلى مستوى يشبه الانزياح في الشعر.

وربما يختلف النقاد واللغويون والباحثون على تفسير ما كتبه، إذ يراه البعض ضبابياً والآخر يراه واضحاً، لكني فقرأت ما لم يقرأه غيري بين حروفه وكلماته، إذ أنّ ما قصد إليه تلميحاً هو أهمّ بكثير مما كتب صراحةً، فانتقل أبي رعد إلى المعنى الأساسي ثم إلى المعنى الإضافي، ثم إلى المعنى الأسلوبي ثم الى المعنى النفسي ثم الى الإيحائي، والإيحاء عنده قرنه بإيحاء موسيقي ناتج عن تناغم الحروف والكلمات.

يقول في الصفحة 35: «ليس الخطر ممّن يلتقي العدو خِلسة، إنما من الطائفي لأنه عميل بالفطرة.»

المعنى الأساسي يشترك فيه كلّ القراء على أنّ الخطر هو من الطائفيين، في كلّ المذاهب. والمعنى الإضافي هنا أنّ عدونا الإسرائيلي لم يستطع أن يجند أفراداً عقائديين بل جند أفراداً طائفيين ظناً منه أنهم بتعاملهم مع العدو الصهيوني إنما ينتصرون على الطوائف الأخرى.

وهذه العبارة لا تكتسب صفة الثبوت وإنما يتغيّر تفسيرها حسب القراء بحسب ثقافتهم وانتماءاتهم الحزبية والعقائدية.

وفي مكان آخر مشابه يقول في صفحة 14:

«لا تليق بك الوطنية

ما دمت تلبس رداء الطائفية»

ولا يمكن أن نفسّر كلامه من حيث المعنى الذي قصده إلا من خلال السياق اللغوي، السياق العاطفي وسياق الموقف.

وعلي في كلّ ما كتب إنما يركز على الموقف، فهو يكتب لإيصال رسالة إلى من يعنيهم الأمر.

مثال ذلك صفحة 39:

«لم نذرف الدماء

كي تشربونها أنخاباً

على طاولة المفاوضات

من أين لنا بأعداءٍ

ما دامت كلّ الدول

تقتلنا لأجلنا؟!»

ويقول في مكان آخر وموقف آخر.. صفحة 88:

عندما يخدمك المسؤول بوظيفة

أو يغطيك بتشبيحة

لا يعني أنه بطل قومي»

دراسة المعنى لكلمات «إبحار على متن كلمة» لا تكون كما استعمالها في اللغة، فالمعنى لا يظهر إلا ما وراء المعنى المباشر وأجتهد لأقول إنّ ما عبّر عنه أبي رعد ما هو إلا مفاتيح معانٍ جديدة. ولا يمكن تفسير كلماتها قاموسياً لأنّ الوحدات اللغوية عنده وضعت لغير معناها الأصلي.

ولهذا فإنّ كتابه بحر، وبحسب قوة السبَّاح يستطيع أن يدخل إلى الأعماق، فمن كان سطحياً يرى كتاباته عادية جداً وسطحية، ومن كان عميقاً يرى كتاباته عميقة، لأنّ كلماته متصلة ببعضها دون أدوات ربط، وأفكاره تخدم أفكاره بالإجمال، يعني أننا لا نستطيع أن نفصلها في الهدف والمعنى وإنْ فصلت طباعياً، وقد نرى أفكاراً وكلمات متشابهة في الحروف ولكنها مختلفة بدرجة العمق، فالبحر كبير جداً وعميق وتختلف طريقة سياحتنا، وموقفنا فنحن من أيّ شاطئ ننظر إلى البحر، فكيف إذا كانت الكلمات إبحاراً وشعورنا أنّ الغطسَ مُحالُ.

وقد نجح أبي رعد في تبديل العبارات اللغوية إذ عمد عن قصد إلى استخدام كلمة مكان أخرى لإصابة هدف معيّن.

«1 ـ على تقاطع حلم. 2 ـ ترجّل عن صهوة عمره. 3 ـ صراع مرير مع الفراق. 4 ـ أغصان أشجار مذعورة. 5 ـ الشهادات الطائشة. 6 ـ غيمة شاردة. 7 ـ لا أرى إلا مذيعاً يعلك الجثث. 8 ـ بالإعدام قهراً حتى الموت».

انطلاقاً من قائمة الألفاظ التي استخدمها لغير معناها الحقيقي، وهذا ما جعلها مفتوحة غير محدودة في تطوّر لغوي هامّ مراعياً المستويات الصوتية والصرفية والنحوية، وهذا يدلّ على رقيّ الدلالة اللفظية، إذ أنّ الكلمة تتحوّل إلى معنى فيما وضعت له محافظة على سحر تشويقها وإنْ بدت غامضة أحياناً.

وفي الختام نعود لما أوردهُ المؤلف في مقدّمته القصيرة جداً حيث اعتبر أنّ كتابه عناوين لموضوعات متناثرة أملتها ظروف عابرة ومشاهدات لآخرين، قد تصادف أياً منا، وقد تصلح في أزمنةٍ أخرى.

لكنها ليست قانوناً أو مذهباً فكرياً يُحتذى به، إنما هي رسائل نُسجَ بعضها من خيوط الروح ونشرت على مدار الأيام بين الأعوام 2014 و 2018.

شاعر وناقد أدبي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى