سياسة لبنان الخارجية نحو تصحيح وطني؟

د. وفيق إبراهيم

تُلبّي السياسات الخارجية للدول مصالح أوطانها على مستويات الاستقرار السياسي والمصالح الاقتصادية والاجتماعية.

لكن لبنان بمفرده في هذا المحيط العربي الكبير، يبني سياساته الخارجية على إيقاع علاقات الجزء المسيطر من طبقته السياسية مع الخارج الاقليمي والدولي.

فيميلُ كما يتجه الخارج متقدّماً عليه في معظم الأوقات على حساب مصالح لبنان بشعبه ودولته.

لقد بدا بوضوح انّ السياسة الخارجية للبنان تنتظر صدور الموقف الأميركي السعودي حتى تتبناه وخصوصاً في الخمس عشرة سنة الماضية فتجمّعت قوى الحريرية السياسية وأحزاب التقدمي الجنبلاطي والقوات والكتائب وبعض سياسيّي 14 آذار في نهج أساء لعلاقات لبنان مع قسم كبير من محيطه العربي والإقليمي والدولي.

هذا من دون أن يجذب أيّ مصالح للبنانيين مكتفياً بالدعم الأميركي السعودي لأدواره في قيادة لبنان وهذه أدوار خارجية وفّرت له إمكانية السطو الداخلي شبه الكامل على المال العام والإدارات بفساد سياسي غير مسبوق.

كما وفر اندلاع الأزمة السورية منذ 2011 فرصة تاريخية لهذا الحلف ليرتمي في أحضان الموقف السعودي على قاعدة العداء الكامل للدولة السورية، فأصبح رئيس وزراء لبنان والقسم الأكبر من الوزراء والسياسيين يتعمّدون مهاجمة الدولة السورية يومياً متذرّعين أنهم على الحياد في الصراعات العربية، حتى وصل الأمر الى انّ المراقبين الدوليين أصبحوا يعتبرون انّ حكام لبنان هم رئيس الوزراء ووليد جنبلاط وسمير جعجع وسفيرا السعودية والإمارات اللذان يتجوّلان يومياً في ربوع لبنان السياحية مموّلين ومستقبلين عشرات السياسيين الداخليين.

هذا الى جانب قطع كامل مترافق مع عداوة كبيرة مع سورية حتى صار سمير جعجع المتهم بعشرات آلاف القتلى منذ حروب ثمانينيات القرن الماضي وحتى بداية هذا القرن، يهاجم «دموية» الدولة السورية وكذلك جنبلاط المعروف بتاريخه الدموي الحافل يهاجم سورية يومياً في الصباح وقبل النوم لكسب ودّ الخارج، أما الحريريون السياسيون من شيخهم وحتى الذين تقطعت بهم السبل كالريفي والمشنوق فيبدون كمن يقدّم دروساً للسعودية حتى تمنحهم شهادة حسن سلوك تضعهم ضمن دائرة المرشحين المقبولين لرئاسة مجلس الوزراء او ايّ موقع آخر. فأين يوجد رئيس وزراء يقول إنه لا يوافق على إعادة سورية الى مقعدها في جامعة الدول العربية لأنّ السعودية لا توافق وذلك في تصريح علني، ويرفض عروضاً

روسية وإيرانية بتسليح الجيش اللبناني، بشكل شبه مجاني ويوافق في زيارته الأخيرة لفرنسا على عرض فرنسي بتزويد لبنان ببوارج بحرية بقرض قيمته مليار ومئتا مليون دولار!

لذلك بدا واضحاً أنّ سياسات لبنان الخارجية لم تمارس حيادية بين الدول العربية. فاستسلمت للسعودية بشكل كامل وارتمت عند السياسات الأميركية والفرنسية على حساب التصدّي لروسيا وإيران، كما أنها لم تنسج ايّ علاقات لمصلحة الشعب اللبناني مع بلدان الاغتراب والقوى الاقتصادية الجديدة في العالم كألمانيا والهند والصين واليابان.

حتى أنّ بعض أصوات هذا المحور لا تنفك حتى اليوم تطالب بانسحاب حزب الله من الجنوب اللبناني لاعتبارات غير لبنانية بكل تأكيد.

هناك ملاحظات لا بدّ من ذكرها ولو بدت كمن يجلد نفسه. فهذا الانحراف اللبناني في السياسة الخارجية من قبل فريق الحريرية السياسية لم يجابه من الفريق الوطني. إلا في ما ندر. قد تقود أسبابه الى ان المرحلة الأولى من الأزمة السورية شهدت تحالف المحور السعودي التركي الإماراتي الأردني مع الأميركيين مع دور إسرائيلي لافت لإسقاط الدولة السورية، حتى بدا الأمر وكأنها مسألة أسابيع، لذلك صبر فريق حزب الله حتى شاركت عسكرياً بإسقاط المرحلة الأولى الأكثر خطورة على سورية، مشكلاً تحالفات واسعة مع حركة أمل والتيار الوطني الحر والمردة والسوريين القوميين الاجتماعيين والقوى الوطنية الأخرى. هذا الحلف نجح في انتزاع أكثرية مقاعد المجلس النيابي والحكومة بالتزامن مع توسع سيطرة الدولة السورية على سبعين بالمئة من أراضيها وسط هزيمة كاملة للمشروع الإرهابي التكفيري وتراجع الدور السعودي والانكفاء الأميركي على مستوى الشرق الاوسط.

لقد كان واضحاً أنّ حركة امل وحزب الله والسوريين القوميين الاجتماعيين والمردة ينتظرون تبلور موقف التيار الوطني الحر لإعادة تصحيح السياسة الخارجية اللبنانية.

وبالفعل بدأ وزير خارجية لبنان جبران باسيل بعمليات التصحيح استناداً الى المبادئ التاريخية الكبرى للدولة اللبنانية التي بدأ باعتبار «إسرائيل» عدواً أساسياً للبنان، وبالحياد بين الصراعات العربية والدولية.

فكيف يمكن للإمارات وعُمان والكويت والأردن ومصر والعراق والجزائر أن يقيـــموا علاقـــات طبيعية مع سورية ولا يفعل لبنان أمراً مشـــابهاً؟ خصوصاً أنّ أحد أسباب التراجع المريع للاقتصاد اللبناني الى جانب الفساد السياسي يأتي من إقــــفال الحدود اللبنانية السورية في وجه حركة التبادل الاقتصادي. وهذه هي المعابر الوحيدة التي تربط لبنان بالأردن والخليج والعراق.

لذلك بدأ الوزير باسيل في مواقفه الداعية الى تحسين العلاقات مع سورية مجسّداً طموحات اللبنانيين المصرين على الدور السوري الاقتصادي من خلال الحدود مع المشاركة في إعادة إعمار سورية، ما استنزل عليها غضباً حريرياً جنبلاطياً جعجعياً مستوحى من المواقف السعودية الأميركية.

فهل يجري تصحيح السياسة الخارجية اللبنانية بشكل تتلاءم فيه مع الحيادية اللبنانية المطلوبة ومصالح اللبنانيين؟

هذه هي المعركة السياسية التي بدأت ملامحها بالتكوّن على شكل خلافات داخل مجلس الوزراء. والواضح انّ فريق التيار الوطني وحزب الله والرئيس بري مصرّون على العلاقات الطبيعية مع سورية حتى لو وصل الأمر الى حدود تضعضع الحكومة الحالية وهذا من شأنه ان يحرّر هذه السياسة من المصالح الشخصية والطائفية لفريق الحريري جنبلاط وجعجع دافعاً الاقتصاد اللبناني الى ازدهار فعلي وطني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى