كيف تبقى انتفاضة اللبنانيين في إطارها الوطني؟
د. وفيق إبراهيم
هذه هي الإشكالية المطلوب إيجاد حلّ سريع لها قبل ان تتمكّن بعض القوى السياسية الداخلية العاملة بإيقاع خارجي من تحويل حراك طبقي – وطني لبناني حقيقي إلى فوضى ودفع البلاد نحو الخراب.
بداية، لا بأس من التنويه بهذه الحشود الجماهيرية التي ضاقت ذرعاً بسياسة اقتصادية تسطو على المال العام منذ ثلاثة عقود بأسلوب استنزافي وتحاصص يشمل قوى السلطة التي أنتجها مؤتمر الطائف في 1989.
لذلك فهذه بدايات ثورة تحتاج إلى وقت كي تشكل قيادة حقيقية تستطيع التدخل في بناء نظام اقتصادي يستفيد من العناصر الممكن الاستثمار فيها ووضع حدّ لفساد سياسي مرتبط بطبقة وليس بزعامات محدودة. وهذه الطبقة تضيف في كلّ انتخابات أعضاء جدداً في مجالسها النيابية والوزارية ورئاسات الجمهورية، إنما بتبنّي ذهنية الفساد المتحكم والكامل والمتواصل منذ 1992 حتى أصبح هذا الفساد النموذج الاساسي للحكم فيما النزاهة استثناء يجري اتهام السياسيين والإداريين المنتمين إليها بالبساطة «معتر».
ضمن هذا السياق يرفع هذا الحراك الشعبي شعارات صحيحة تعتبر الفساد اقتصادياً ترتكبه طبقة طائفية سياسية، بما يؤدّي الى أنّ الحلّ يجب أن يكون سياسياً اقتصادياً بشكل يجب ان يشمل إنتاج نظام سياسي جديد يضع سياسات اقتصادية نافذة تعتبر انّ الاقتصاد يجب ان يخدم إعادة دعم الطبقات الوسطى والفقيرة لإعادة تشكيل الأمان الاجتماعي وبالتالي الاستقرار السياسي. وهذه قاعدة علمية أنتجت عالماً سياسياً مستقراً في أميركا الشمالية وأوروبا واليابان والصين وأنحاء أخرى. وهذا ما ترفضه السياسة في العالم العربي فتحدث التغييرات والانتفاضات والتدخلات الأجنبية والإفقار، فلا تجد قوى الداخل حلاً إلا بالمزيد من الاحتماء بالقوى الأجنبية.
لبنان جزء من عالم عربي سياسي ويزاول هذه الظواهر نفسها انما بوسائل أخرى، فبدلاً من القمع المباشر للجيوش والمجازر اعتمد النظام اللبناني اسلوب تعميق الصراعات بين المذاهب والطوائف المتعدّدة ما أدّى الى ولادة ذعر متبادل بين المنتمين إليها، أيّده رجال الدين الداعمون للسياسيين فسقط اللبنانيون إلى صراع على أساس انتماءات طائفية واشتدّ تسلط الزعماء الذين يمسكون بتلابيب الناس محوّلين الصراعات الطبقية والوطنية صراعاً طائفياً يقوده زعماء يقدّمون أنفسهم على أنهم حماة مذاهبهم بدعم من الخارج.
ادّت هذه المعادلة الى إلغاء ايّ مراقبة شعبية على إنفاق المال العام الذي سطا عليه السياسيون الى حدود إفلاس الدولة وإفقار المجتمع. لذلك كان طبيعياً ان تتراجع الأبعاد الطائفية والدينية لمصلحة تقدّم الإحساس الطبقي الوطني.
فالجوع يطرق أبواب اللبنانيين من الطبقات الفقيرة متسبّباً بضمور خطير في عديد الطبقة الوسطى مقابل تشكل طبقات عليا من تحالف سياسي مصرفي أمسكوا بالمال العام واستنزفوه.
هذا ما أنتج هذا التحرك من مجموعات صغيرة غير منظمة دعمها نزوع أحزاب شيوعية ووطنية وقومية، كانت مثابة دق جرس إنذار الانتفاضة الاجتماعية المرتقبة، وما ان أطلقت الحكومة سلسلة ضرائب جديدة على الفقراء وتجنّبت أيّ مساس بالمصارف والأملاك العامة المسطو عليها واستمرار حركة الفساد في المرافق العامة، حتى تحوّل هذا الحراك الصغير الى انتفاضات جماهيرية كبيرة، أصيلة حقيقية.
عند هذا الحدّ كان الأمر مقبولاً عبر سيناريو صراع بين لبنانيين رافضين لسياسات الحكومة وبين طبقة سياسية فاسدة بالكامل إنما على مستوى الداخل.
ما استجدّ على هذا الصراع الطبيعي دخول أحزاب التقدمي والقوات والكتائب وسياسيّين ينتمون إلى خطوط خارجية لا يهمّها أبداً تحسين الداخل اللبناني بل محاولة استخدامه لغايات الخارج السياسي.
ولأنّ لهذه الأحزاب علاقات واضحة مع الجانب الأميركي السعودي، فكان طبيعياً إدراك محاولاتها في التسلل الى الانتفاضة للمطالبة بخلق أزمة حكومة وليس إصلاحاً اقتصادياً سياسياً.
لقد ذهبت هذه الأحزاب من خلال تسللها الى منابر التحرك الإعلامية الى حدود المطالبة باستقالة العهد بكامله برئاساته الثلاث وحكومته، أيّ خلق حالة فراغ سياسي، تتحوّل إلى أزمة حكم، وتنقل الصراع من المؤسسات الدستورية الى الشارع أيّ إعادة الاحتراب الى أبعاده الطائفية.
اما الأسباب فواضحة، ومطلعها انّ رئاسة الجمهورية أعلنت من الأمم المتحدة أنها بصدد إعادة العلاقات مع سورية وتعتبر حزب الله مقاومة وطنية للدفاع عن لبنان، كما أنّ وزير الخارجية جبران باسيل أكد منذ أقلّ من أسبوعين انه ذاهب الى سورية لمناقشة إعادة الإعمار فيها وفتح الحدود الاقتصادية بين البلدين والتشجيع على عودة نازحيها إليها من لبنان.
ضمن هذه المواقف الجريئة يجب البحث عن أهداف المتسللين الى الانتفاضة الجماهيرية الصادقة، الأمر الذي يحتّم تشكل قيادة لهذا الحراك تمنع تشويه الأهداف والتسلل من الداخل لغايات خارجية. وهذا يستلزم تنسيقاً مع قوّتين وازنتين تؤمنان بهذه الانتفاضة ومصداقيتين. وهما: حزب الله بما هو قوة شعبية عسكرية والجيش اللبناني الذي يعبّر عن العهد والدولة واستمرار الوطن، انّ تنسيقاً على هذا المستوى كفيل بالمحافظة على وطنية الانتفاضة ودعمها لتحقق كامل أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إطار وطني سليم يبقى فيه لبنان مساحة للحرية والديمقراطية.