حتى لا يستثمر السماسرة الأرض
العلامة الشيخ عفيف النابلسي
أيام وأنا استمع إلى كلام الناس. بعضه موجع يعبّر عن معاناة حقيقية. مِن الناس مَن لا يجد ما يسدّ به جوعه. آخرون لا دواء عندهم يخفف آلامهم. مدرّسون تمّ إذلالهم على مدى سنوات طويلة. موظفون يُقتطع من رواتبهم. شباب تخرّجوا من جامعاتهم ولا يجدون فرصة عمل. كهرباء تُدفع مرتين. ماء ملوّث. نفايات في الشوارع. أزمة قمح ومحروقات وتعليم وطبابة، وبحر من الأزمات التي لا أفق لحلها مع هذه الطبقة السياسية التي تسبّبت بهذا الوضع ولم تنجح في التخفيف من هذه المعاناة العامة بجملة من الإجراءات الملموسة إلا ما خرجت به ولم يحقق إلا القليل القليل من أحلام الناس وتطلعاتهم . ولكن بعض الكلام الآخر الذي استمعت إليه سياسي يحمل في طياته الكراهية والانتقام. يريد أن يُسقط رئيس الجمهورية أو يشير بأصابع الاتهام لسماحة السيد حسن نصر الله وكأنهما هما سبب الأزمة التي تراكمت بفعل التركيبة الطائفية وتحالف الفاسدين على مدى سنوات الحكم منذ ما بعد الطائف.
لا شك في أنّ الصدمة الجماهيرية كانت في محلها وأعطت الجرعة المطلوبة للإصلاح، ولكن المطالبة بإسقاط الحكومة واستقالة كلّ أركان الحكم دفعة واحدة كما هو مطلب البعض هو قفزة في المجهول لا يُعلم ما بعدها. لا واقعية في هذا الطرح الذي تروّج له وسائل الإعلام بقوة، ولا لأحد من المكونات رغبة في الذهاب إلى هذا الخيار الانتحاري.
إنّ سؤالي للناس هو التالي: لقد قمتم بعمل جبار تُشكَرون عليه، ولكن لا إصلاحات من دون رجال ومؤسسات. اضغطوا ولا تكونوا شركاء في الهدم. اضغطوا واحذروا من الفوضى. اضغطوا ولتكن أهدافكم واضحة. فلا تختلط انتماءاتكم السياسية بالمطالب الاجتماعية. ما تريدون تغييره بالسياسة ليكن عبر التشدّد بإقرار قانون انتخابات وطني بعيداً عن القيد الطائفي، وليكن لبنان دائرة واحدة. اطلبوا من الحكومة إقرار قانون بهذا الصدد وحدّدوا لها مهلة زمنية. حاسبوا كلّ هذه الطبقة عبر صندوقة الاقتراع. عندها تستبدلون ما أنتم غير راضين عنه. طالبوا باستبدال مجموعة من النافذين في المؤسسات كخطوة أولى على أن تتبعها سلسلة مطالبات أخرى.. اطرحوا مجموعة من البنود الفورية التي على الحكومة أن تنفذها كحسن نية منها… وهكذا، لكن احذروا من الهدم الشامل لأنّ هذا الفعل غير واقعي ولا يمكن أن ينتج إلا صراعات خطيرة قد تودي بكلّ تعبكم وصراخكم.
إني ومن خلال تتبّعي لمسار الأحداث الذي بدأ مع حركة إرسال العملاء إلى لبنان، والحرائق التي تدور حولها شبهات كثيرة، ولعبة الدولار بعد موقف رئيس الجمهورية في الأمم المتحدة، وتصريح وزير الخارجية بقرب تفعيل العلاقات مع سورية لحلّ أزمة اللاجئين، أرى أنّ كلّ الذي يحصل يضع أمام أعيننا علامات استفهام كثيرة تحتاج منا التنبّه حتى لا يستثمر السماسرة الأرض.
أيها المواطنون في الشارع إنّ حراككم وأنتم تطالبون بالعدل وتصحيح مسار الدولة يعكس وعيكم وإيمانكم وحقكم الإنساني في العيش في دولة ترعى شؤون مواطنيها وتعدهم بالأمان الاجتماعي والحرية والكرامة. لكن عليكم في الوقت عينه أن تحذروا من السراق ومن يريدكم أن تتحرّكوا وتندفعوا بكلّ طاقاتكم ليأتي بديلاً إلى الكرسي، لا بديلاً في النزاهة والشفافية وخدمة الناس. لاحظوا كيف تتصرف بعض القوى لتصفي حساباتها مع قوى أخرى منافسة لها. لاحظوا وسائل الإعلام التي تثير الناس وتوجههم نحو أهداف محدّدة وتغضّ الطرف عن الفاسدين والمرتكبين الأساسيين. نحن أمام صراعات بين قوى وأحزاب وشخصيات تحجب حقيقة المشهد، الذي يريد أن يستغلّ وجع الناس لفرض وقائع معينة عليكم، ما يعني أنكم أمام خطر كبير عندما تنجلي غبار المعارك، بأن تتمّ التضحية بكلّ هذا الجهد في صفقات بين قوى محلية وأخرى إقليمية أو دولية.
أخاف عليكم لذلك كونوا على مستوى الوعي وإلا ضاعت آمالكم من جديد!