لبنان: إغضب كما تشاء لكن انتبه للدّفة… فاللصوص كثيرون!

نصار إبراهيم

« لا تصالحْ!

هل ترى..؟

هي أشياء لا تشترى…

لا تتوخَّ الهرب!

أقلب الغريب كقلب أخيك؟!

أعيناه عينا أخيك؟!

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك؟

سيقولون:

ها نحن أبناء عم!

قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة في من هلك» أمل دنقل لا تصالح

لبنان من شماله إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه، بمدنه وساحاته وبلداته وشوارعه، تحوّل إلى حالة اشتباك ممتدة تخوضها الجموع الشعبية بكلّ أطيافها وتنوّعها، جموع تصرخ ألماً ووجعاً، ترسل همومها شجونها وآمالها وطموحاتها على شكل غضب ساطع يثير الإعجاب والدهشة والغيرة من شعوب كثيرة.. قريبة وبعيدة. لا يخلو هذا المشهد المهيب من مفارقات وسخرية هي تعبير عن حيوية الناس بكلّ أطيافهم. شباب وصبايا، نساء ورجال، كبار وصغار، كلّ يعبّر بطريقته وكيف يشاء… جميل كلّ هذا… مما يستدعي قراءته بصورة عميقة بعيداً عن الهبوط والإسفاف والثرثرة…

انطلاقاً من بديهة الوقوف مع حقوق الناس ومطالبهم الطبيعية بلا تردّد أو مراوغة، من الضروري أيضاً وفي ذات الوقت، التفكير بعمق لكي نعي الحالة بعيداً عن التسرّع والسطحية، هذا شرط لكي تتحدّد التخوم وكي لا يختلط الحابل بالنابل فتنحرف البوصلة أو يتمّ حرفها… ففي كلّ حدث في واقعنا العربي يجب أن لا ينسى أحد أنّ هناك دائماً قوى ولاعبين داخليين وخارجيين لا يمزحون، فهم يعملون بدأب وذكاء، لكي تغرق الحركات الشعبية في دوامة العبث والضياع والتدمير، وفقدان ركائز الوضوح ونواظم الفعل الشعبي الواعي، الذي يسير نحو أهدافه بثبات، بعيداً عن العموميات والشعارات الخادعة.

انطلاقاً من ذلك يمكن التوقف أمام ما يلي:

ـ انفجار الغضب الشعبي في لبنان بهذه الطريقة والقوة هو تعبير عن تراكم طويل للضغوط التي ظلّ المواطن اللبناني يتعرّض لها اقتصادياً واجتماعياً على مدى عقود. هذه الضغوط هي نتاج الاختلالات البنيوية التاريخية في لبنان: الطائفية الدينية والسياسية والعائلية، التدخلات الخارجية وما ترتب عليها من تبعية وفقدان القدرة على تحديد الخيارات والأولويات والسياسات، مما شكل مساساً عميقاً بسيادة لبنان على كلّ المستويات، وتطاولاً على حقوق الناس وحاجاتهم الأساسية لقمة العيش، السكن، العمل، التعليم، الصحة، الكهرباء، الوقود، البيئة …

فتغوّلت المصارف التابعة والخاضعة للمؤسسات الدولية وتوحّشت في السيطرة على الاقتصاد اللبناني ونظامه المالي والمصرفي، كما انتشرت ثقافة الكازينو بما ترتب عليها من تهميش للقطاعات الإنتاجية الرئيسية: الزراعة، الصناعة، السياحة. كلّ هذا أسّس منظومات الفساد والإفساد التي تغلغلت في بنى الدولة والمجتمع والطوائف، وكرّست أمراء الطوائف الذين اتخمت جيوبهم بمليارات الدولارات، وهكذا تأسّست مراكز قوى حاكمة هي تعبير مباشر عن التحالف ما بين الطائفية العائلية – السياسية والقدرات المالية القائمة على عقلية ميليشياوية طائفية مرتبطة وتابعة لقوى إقليمية وعالمية هي صاحبة القرار النهائي… في هذا السياق نشأت «الآلهة الطائفية العائلية والسياسية»… التي تعاملت مع «طوائفها» كمطية وحوّلتها إلى جمهور خاضع ومستلب ينتظر الهبات والعطايا في كلّ المجالات: وظيفة عامة أو خاصة، عمولة، رشوة، تسهيلات هنا وهناك وغير ذلك.

الأصابع الخفية

لقد أعطانا ما يسمّى بالربيع العربي، الذي عصف بمجتمعات ودول عربية عديدة ليبيا، سورية، العراق، اليمن، مصر… دروساً وتجربة كبرى ثمنها دماء وتضحيات ودمار هائل… بحيث تحوّلت إلى ساحات مفتوحة للمشاريع والتدخلات الخارجية، التي وفرت كلّ الإمكانات لدفع المجتمعات العربية في ممرّ إجباري محكوم بالتدمير الذاتي، من هذه الدروس:

– توظيف واستخدام المطالب الشعبية المحقة كجسر لمرور قوى الشدّ الداخلي العكسية التي هي بالأصل سماسرة ووكلاء وأدوات عند قوى الهيمنة الاستعمارية الخارجية إلى قلب الحركات الشعبية، والهدف هو تحويل تلك الحركات إلى ديناميات تحطيم للدول والجيوش والمؤسسات الوطنية والمدنية وصولاً إلى التمزيق والتقسيم الاجتماعي والطائفي والجغرافي، وبالنتيجة تصفية وإفراغ تلك الحركات الشعبية من مضمونها الاجتماعي والوطني وإفقادها رؤيتها وتماسكها، بحيث تصبح حركات لا رأس لها وبدون ثقافة أو مشروع وطني للتغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي… فتغدو مجرد حالة منفلتة يسهل العبث بها الوجهة تستهدف إجهاض أيّ عملية تغيير جذرية حقيقية، بما يفقدها القدرة على حفظ التوازن ما بين النضال من أجل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الطبيعية وفي ذات الوقت عدم التفريط أو المساس باستقلال وسيادة وكرامة الوطن في مواجهة قوى الهيمنة والاستعمار والرجعية.

ـ القوى الاستعمارية وأدواتها الداخلية لا يهمّها لا الحرية ولا الديمقراطية ولا حقوق الناس ومطالبهم.. ما يهمّها أمر واحد ووحيد: الحفاظ على هيمنتها ونهبها ومصالحها وتحطيم فكرة المقاومة كمشروع اجتماعي وسياسي وثقافي وطني وقومي بكلّ مكوّناته… يتحقق هذا من خلال خلط الأوراق وخلط الشعارات وإغراق الحركات الشعبية في فوضى المواقف بحيث يختلط كلّ شيء بكلّ شيء، فيتمّ تغييب القضايا الوطنية والقومية بحيث لا يبقى سوى هتافات عامة حول الحقوق بدون أيّ إطار أو ناظم أو محدّدات وطنية… بعدها تسهل عملية السيطرة والإخضاع حين تحرك قوى الهيمنة والرجعية أدواتها المالية والإعلامية الدولية وأدواتها الداخلية كقوى تنفيذية… هذا بالضبط هو جوهر استراتيجية ما يسمّى «الفوضى الخلاقة».

بعد النجاح في ركوب وإجهاض الحالة الشعبية وهيمنة الثقافة والممارسة الطائفية وضرب الثقة بكلّ ما هو قائم من قوى ومؤسسات وطنية، حينها تطرح القوى الخارجية نفسها باعتبارها المنقذ، فتعيد إنتاج النهب والفساد والتبعية والخضوع… حينها تصبح الشعوب المنهكة بسبب تناقضتها واقتتالها وبعد فقدانها الثقة بوطنها ومؤسّساته وتاريخه لقمة سائغة يسهل إخضاعها بانتظار جولة جديدة.

ـ لهذا يجب وعي دور القوى الخارجية والرجعية ومخططاتها المباشرة وغير المباشرة التي تستثمر الغضب الشعبي لكي تصفي الحساب مع القوى السياسية والاجتماعية والثقافية التي تناهض مشاريع الهيمنة والسيطرة والتقسيم… وتشكل ذاتياً وموضوعياً حالة مقاومة وقوى صدّ وطنية وقومية في مواجهة مشاريع الهيمنة والاستعمار، هذا لا يعني أنها معصومة من الخطأ والنقد ، يتحقق هذا الهدف العميق من خلال إرباك الحالة الشعبية وإغراقها في الفوضى والعماء ودفعها نحو ردود فعل بحيث لا تعود تميّز بين من هو معها ومن هو نقيضها.. بين صديقها وعدوها. وهكذا مثلاً يصبح جعجع وجنبلاط ومن هم على ذات الشاكلة في ذات السلة مع القوى التي قاومت وضحّت بالآلاف من أجل تحرير لبنان من الاحتلال وحمايته من كوارث الدواعش…

أهمية حماية البوصلة الشعبية

الهدف من كلّ هذا الحديث أو رؤوس الأفكار هو لفت النظر إلى أهمية حماية البوصلة الشعبية بحيث لا يتمّ حرفها نحو اتجاه خاطئ ومدمّر، هذا يشترط أن تنتبه القوى السياسية الأصيلة والوطنية وأبطال الميدان إلى أهمية وعي المخاطر المحيطة والمحدقة بالحركة الشعبية وعدم الاستخفاف بها… وخوض النضال مع الناس بما يوفر شبكة أمان للحركة دون الوقوع في خطيئة ركوب الموجة بهدف توظيفها طائفياً أو بصورة حزبية ضيقة…

هنا يتجلى ويتحدّد الدور المركزي للنخب الثقافية والإعلامية التي تتحمّل مسؤولية تغذية الشارع والحركات الميدانية برؤية ثقافية تبقي الوعي الشعبي حيوياً وواضحاً، بحيث تبقى الحركة منضبطة للثوابت: أيّ الدفاع عن حقوق الناس ومطالبهمفي كلّ المجالات ودعمها، وأيضاً تمكين الحالة الشعبية على الصعيد الوطني بمعنى مواجهة التدخلات الخارجية ومشاريع الهيمنة وأيضاً حماية المقاومة كفكر وخيار وممارسة في مواجهة تهديدات الاحتلال التي تستهدف وحدة وسيادة واستقلال وكرامة لبنان والشعب اللبناني وشعوب الأمة العربية كلها.

في النهاية… لقد أثبت الشعب اللبناني خلال الأيام الماضية، كما أثبت خلال السنوات الماضية الحافلة بالمقاومة والتضحيات، أنه شعب يملك الوعي والحدس والشعور العالي بذاته وكرامته، فبالرغم من كلّ التهديدات والصعوبات والبنى والقوى البائسة الطائفية والسياسية ومنظومات الفساد والقهر إلا أنه بقي ممسكاً بالبوصلة نحو وجهتها الصحيحة اجتماعياً ووطنياً بثبات واقتدار… لهذا ليس من السهل خداعه ولن يكون تابعا لأحد…

هذا هو لبنان «متطرف» في صبره، حيويته، تنوّعه، جرأته، مقاومته، وتضحياته، «متطرف» في ألمه وسخريته وحبه للحياة… وسينتصر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى