إدمان الشاشة عند الأطفال… تراجع في المهارات العقلية وانعكاس على البنية النفسيّة وروح المشاركة
رنا محمد صادق
فرضت العولمة والحداثة في التكنولوجيا الكثير من العادات والآفات والقضايا، خصوصاً على المجتمع وأثّرت تأثيراً واضحاً على الأطفال والمراهقين من خلال تصرّفاتهم وسلوكهم الاجتماعي وبنائهم المعرفي. يُعتبر هؤلاء أبناء الجيل القادم ومشاريع المستقبل، وإن لم تكن رعايتهم عبر طرق فعّالة وتمكين قدراتهم المعرفية والإدراكية والعقلية، فإن مستقبل مجتمعات العالم ككلّ بخطر.
الرقمنة والحداثة… خطرٌ جسيمٌ
دخلت بيوتنا من الباب العريض، وباتت تشاركنا يومياتنا، وتدوّن التفاصيل الذاتية والخاصة والذكريات، بحيث لم تعُد هناك خصوصيّة أو حرمة، وبدأت معها تتلاشى العادات والسلوكيّات الاجتماعية التي تربّى عليها الأفراد، وأكثر باتت تضرّ ببنية الأطفال ونموهم العقلي الطبيعي.
قبل الولوج في تفاصيل المشاكل الناتجة عن الرقمنة وإدمان الشاشة، لا بدّ من الإشارة إلى ازدياد القلق العالمي من جراء هذه السرعة، والتعلّق صغاراً وكباراً بالمواد والمحتويات التي تقدّمها شبكات الإنترنت والتطبيقات على الهواتف الذكيّة.
حقيقة، أن الإقرار في مجابهة هذه السرعة التكنولوجية وطفرة استخدامها صعب، لا بل شبه مستحيل، خصوصاً أن العالم بات يتّجه بشكل موسّع وواقعي نحو تحويل المدن إلى شبكات ترتبط ارتباطات وثيقاً بمفاعيل الشبكة والرقمنة من خلال برامج اتصال، ما يحتّم دخول العالم في عصر المدن الذكيّة ما بعد عصر السرعة.
من هنا، ولازدياد القلق حول مخاطر هذه الظاهرة اختارت «البناء» تسليط الضوء على المشاكل الاجتماعية والنفسية والعقلية الناتجة عن تمضية الطفل ساعات طويلة أمام شاشة الهاتف، وحلولها للتخفيف من تداعياتها مستقبلياً على المجتمع.
علامات «إدمان الشاشة»
إن السماح للطفل باستعمال الانترنت لفترات طويلة وبمفرده من الأخطاء الشائعة والكبيرة التي يقع فيها الوالدان وتنعكس خطورتها على الطفل، خصوصاً عندما يشاهد المحتوى بمفرده ودون وجود شخص راشد بجانبه، ذلك أن الصور والرسائل التي يتلقاها يفهمها حسب منظوره هو، لأن سنّه لا يسمح له بالتمييز بين الخطأ والصواب وبين الواقع والخيال. إلى ذلك، فإن إعطاء الطفل ما دون الخمس سنوات الهاتف الذكي جريمة.
إدمان الشاشة لدى الطفل هي مشكلة حقيقية يواجهها الأهل يومياً، بحيث تزداد التأثيرات السلبية على نموه العقلي والإدراكي السليم من خلال تراجع ميزة الخيال والإبداع، فهو متلقٍ فقط في هذه الحال لا يعمد إلى إنتاج فكرة أو استنتاج معلومة ما. كما لهذا الإدمان انعكاسات أخرى على الطفل ومنها:
ـ فقدان ثقته بنفسه: الأمر الذي يعرّضه لمشاكل نفسيّة، من خلال التجاوب في البيئة وقلّة المشاركة والانعزال عن الأصدقاء.
ـ تراجع النمو العقلي: بذلك يصبح الطفل أقل قدرة على الاستنتاج والتحليل والقيام بالوظائف الإدراكية التي تعتمد مثلاً على الطرح والجمع أو التجزئة، فهو يتلقى المعلومة دون القيام بأي مجهود ذهني، ما يسبب خمولاً في خلايا المخ والدماغ لديه.
ـ تراجع وظائف الذاكرة: الطفل الذي يعتمد خلال نهاره على مشاهدة البرامج على شبكة الإنترنت تصبح ذاكرته ضعيفة في ما حوله، بحيث يعتمد على المعلومات في الهاتف، وتصبح قدرته على الحفظ ضعيفة.
ـ إن أدمغة الصغار غير قادرة على تطبيق ما يتعلّمونه من الشاشة على الواقع، لأنها غير مكتملة النمو، بحسب دراسة كندية أجريت على 17 طفلاً.
ـ تراجع إتقان المهارات: تبطئ قدرة الطفل في تطبيق المهارات، في الركض والمشي والرسم والكتابة لأنه يضيّع معظم وقته أمام الشاشة.
ـ التأخّر بالكلام: إن قضاء الطفل يومياً ساعات على شاشة اللوحات الالكترونية يؤخّر عملية النطق وحفظ الأحرف لديه، وهي المشكلة الأكثر شيوعاً.
ـ البدانة: للبدانة أسباب كثيرة، نضيف إليها هذه الظاهرة، حيث بات الطفل لا يقوم بالحركة واللعب بل يمضي وقته في مشاهدة البرامج الالكترونية والفيديوات، أثناء تناول الطعام.
كل هذه المخاطر قد لا يلاحظها الوالدان مباشرة بل ستظهر في ما بعد لتؤثّر على مستقبل وشخصية الطفل ومستواه الدراسي والتأثير على القيم والمبادئ والعقيدة والأفكار، بالإضافة للتأثيرات السلبية على النفسيّة والجسد مثل إرهاق العينين والتعب الجسدي نتيجة الجلوس غير المريح لفترات طويلة، كما نلاحظ عزلة الطفل عن المجتمع باعتبار الإنترنت بديلاً عن الوسط الاجتماعي.
انعكاسات نفسيّة
تشير الأخصائية في المعالجة النفسيّة «نجوى بنوت» إلى أن استخدام الطفل للأجهزة الالكترونية المختلفة يؤدي في بعض الحالات إلى الإدمان مما يعني أنه بحاجة إلى علاج، وثمّة الكثير من المشكلات الأخرى التي قد يعاني منها الطفل كتأخّر النطق لحاجته إلى تعلّم اللغة من خلال المحادثة مع الأهل، السلوكيّات العدوانية لما يشاهده من مشاهد عنف أو من خلال بعض الألعاب فيعمل على تطبيقها على أرض الواقع، كما أن هناك حالات تلجأ إلى العزلة والعالم الافتراضي عوضاً عن العالم الحقيقي، فلا يكتسب مهارات التعامل الاجتماعي..
وتقول: تشخيص وملاحظة تصرفات الأطفال من خلال جملة تصرفات مع مَن حولهم. فالطفل الذي يستخدم أجهزة الإيباد أو المحمول غالباً ما تكون علاقته الأسرية سيئة، كما قد يخلق إدمان الشاشة خللاً في شخصية الأطفال تحديداً في حال دخلوا على مواقع مشبوهة في ظلّ غياب الرقابة الأبويّة، وقد تصيبهم بالاكتئاب أو تولّد لديهم العنف. ولهذه الآفة أو الظاهرة تأثير على التركيز، وتدنيّ التحصيل الدراسي، الخمول، الكسل، الحصول على معلومات خاطئة.
التقييم النفسي لهذه الحالات أي حالات الإدمان على الشاشة يختلف بحسب عوامل عدّة، حيث تقول الأخصائية «نجوى بنوت» إن أغلب المشكلات النفسيّة في الوقت الحاضر تنتج عن الأجهزة الالكترونية وسوء استخدامها من قبل الأبناء في غياب رقابة وتوجيه الأهل مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية عند الأطفال والمراهقين وحتى الراشدين… وقد يؤدي ذلك إلى التورّط في علاقات مشبوهة والتعرّض للابتزاز وغيره.
المعالجة النفسيّة تختلف حسب اختلاف النمو العقلي للطفل، العمر، الجنس ومحتويات البرامج الالكترونية وساعات التعرّض. ففي بعض الحالات قد يتأثر طفل أكثر من غيره لأن يحتاج إلى عطف أو مساحة اهتمام من والديه ولا يجدها، فيلجأ إلى اشباع حاجاته العاطفية في التسلية والمشاهدة، فلكلّ حالة خصوصياتها، من حيث المسبّبات، التأثير وطريقة والعلاج. وعن العمر المناسب لإعطاء الطفل هاتفاً محمولاً تقول: كلّما تأخرنا كان أفضل طبعاً. يراعى توجيه الأبناء عند إعطائهم الأجهزة إلى حسن استخدامها للحصول على المعلومات والتواصل الصحي مع الآخرين.. وضمن فترات محدّدة من قبل الأهل وتحت إشرافهم.
تنشيط السلوك الاجتماعي
تشير أخصائية التربية الاجتماعية «نادين يحفوفي» إلى أنه تارةً ما توجد مشكلة لدى بعض الأمهات بعدم معرفتهن بأصل المشكلة ومدى الأذى اللاحق بالطفل، وأخرى عدم معرفة بعض الأمهات بالحلّ. لذا يجب على الأمهات معرفة شدّة الضرر اللاحق بالولد على المستويين القريب والبعيد لتعمل على الحل التدريجي والجذري. تكمن الحلول في إعداد البناء الاجتماعي للطفل وتنشيط سلوكه في المشاركة، المحادثة واللعب، ويتركز ذلك على بعض الأسس بالتعاون بين المحيط الضيّق للطفل، العائلة والمدرسة، وهي:
1- المحاولة دائماً بشكلّ جدّي في ملء فراغ الطفل بأنشطة مفيدة له تنمّي قدراته الذهنية، الجسدية، والتفاعلية كاللعب والرسم والخيال.
2- تخصيص وقت يومي للطفل، من قبل الأم تشاركه فيه ما يحبّ، تتواصل معه، ترافقه إلى أماكن اللعب الأمر الذي يعزّز ثقته بنفسه ويشجّعه على الإبداع والتفوّق.
3- الأم والأب هما القدوة الأولى للطفل، فيجب عليهما أن يخفّفا استخدام الهاتف أمام الطفل، وأن يخصّصا وقتاً محدّداً يوميّاً له.
4- تنمية علاقاته الاجتماعية الواقعية، من خلال الزيارات والأصدقاء وتعزيز الروابط الأسرية.
دور الأم في التحفيز
تشير الأخصائية «نادين يحفوفي» إلى أن الطفل ينشأ وينمو ضمن بيئة محدّدة، والأصل هي الأسرة المكوّنة من الأم والأب، بقدر سعي الأم لتنمية قدراته وقابلياته بقدر ما ينمو عقله وفكره بالاتجاه الصحيح، لذا على الأم «خصوصاً» تحفيز مدركاته الفكرية وما يتلقاه يومياً من خلال:
ـ التحدث معه، الإجابة على أسئلته، الإجابة بشكل صحيح يتناسب مع عمره، مراعاة رأيه، إقامة جلسة يومية أو حين تستطيع تطرح الأسئلة عليه ومن خلال إجاباته تصوّب فكره نحو التفكير السليم والصحيح.
ـ الأنشطة المساعدة، سواء السمعية أو البصرية التي تحفّز لديه القدرات، مع المتابعة الدائمة له من قبل الأهل.
ـ القصص المصوّبة وما لها من دور في تنمية صورة الخيال وتنمية القدرات العقلية والفكرية.
… وللمدرسة دور أساسي
دور الأسرة أي المجتمع الصغير يتركّز على الطفل قبل ذهابه إلى المدرسة، أما عند انخراطه في المدرسة المجتمع الكبير فإن التحدّيات تزداد، لذا تصبح المسؤولية على الأسرة والمدرسة.
يقع على المدرسة دور جدي في متابعة الطفل من كافة الجوانب الاجتماعية، والنفسية والتعليمية، وتسليط الضوء على كلّ ما يتناسب معه لتأمين جميع احتياجاته الفكرية والعقلية لنموّه السليم في المجتمع، وذلك من خلال إقامة دورات توعويّة للأهل والتلاميذ، الورش، التنسيق مع الأهل حول الموضوع وكيفية المتابعة في المنزل وتطبيق ما يتعلّمه. تفعيل العمل الجماعي بين التلاميذ لما يترك أثراً عند بعضهم البعض.
نصائح للأهل
تنصح أخصائية المعالجة النفسية «نجوى بنوت» الأهل بالعمل على ضبط تلك الأجهزة وكلما استطاعوا التأخّر في إعطاء الأبناء تلك الأجهزة كان أفضل، وإيجاد بدائل صحية كاللعب، الرسم، المطالعة وغيرها من الأنشطة التي تنمّي القدرات والمهارات الفكرية والجسدية وبالتالي النفسية عند الأبناء.. ولنعطهم من وقتنا قدر المستطاع فإن كنا نعطيهم تلك الأجهزة لنشغلهم بها ونقوم بإنجاز المسؤوليات الأخرى التي على عاتقنا..
من هنا، يبقى بناء المجتمع لا يخلو من الشوائب والآفات، ومع كلّ عصر تبرز قضايا جديدة لا بدّ من التلفّت إلى حلولها ووقاية الأطفال من أي خطر ناتج من إدمان الشاشة وغيرها من الآفات التي تؤثر على البنية الأساسية للطفل.