اهتمامات حزب الله ثابتة فماذا عن الآخرين؟
د. وفيق إبراهيم
استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من دون تنسيق مسبق مع القوى الاساسية في الداخل اللبناني تفتح الباب على مصراعيه نحو أزمة حكم خطيرة تتداخل فيها مصالح القوى المحلية وتعليمات الخارج الاقليمي والدولي.
تبدأ الإشكالية في انهيار معادلة الحكم التي تأسّست عليها الحكومة المستقيلة بين الحريري المستقبل ووزير الخارجية جبران باسيل التيار الوطني الحر وامتدّت لإرضاء رئيس المجلس النيابي نبيه بري دون المسّ باهتمامات حزب الله.
هذا البناء أقصى نسبياً الوزير وليد جنبلاط وحزبه التقدمي الاشتراكي كابحاً أحلام سمير جعجع القوات بزعامة الشارع المسيحي، دافعاً الكتائب نحو مزيد من الاحتضار السياسي ما أنتج صعوداً كبيراً لباسيل في التفاعلات السياسية تسبّب له بصدامات مفتوحة مع مختلف القوى باستثناء حزب الله.
لذلك تواكب تحرّك المتظاهرين المحقين في رفض نظام طائفي فاسد مع تسلل الأحزاب المتخاصمة مع باسيل اليه ونجاح قوى الخارج السعودي والأميركي في الإمساك به بالتمويل والتأثير على الأحزاب والجمعيات في الحراك.
وبسرعة استولى «الخارج» على حركة المتظاهرين وفقدت الأحزاب اهتماماتها الداخلية وبان أيضاً الدور السعودي الأميركي في شعارات أساسية رفعها المتظاهرون.
فكان شعار إقالة باسيل عاماً في مختلف ساحات الحراك، ملبّياً طموحات جعجع جنبلاط الجميّل والغضب الأميركي السعودي على مواقفه المؤيدة للمقاومة والتنسيق مع سورية.
كما أنّ شعار نزع سلاح حزب الله سيطر بدوره على حناجر المتظاهرين بتوجيه إعلامي، وذلك في مختلف ميادينهم في بيروت وجبل لبنان، ملبّياً بذلك مصالح السعوديين والأميركيين الذين يتصارعون مع الحزب في الإقليم وليس جعجع أو جنبلاط وحركة سبعة او جمعية كفى.
وهكذا نجح الضغط الإقليمي الدولي الداخلي في نسف معادلة الحكم التي ارتكزت عليها حكومة الحريري المستقيلة، فهل جاء هذا النجاح ثمرة تغيير في موازين القوى الخارجية والداخلية؟
بالقراءة الدقيقة، يتبيّن أنّ هناك محاولات ضغط أميركية سعودية للتغطية على تراجعات النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، تجسد في رعاية المخابرات الأميركية لمصالحة سعودية إماراتية جنوبي اليمن، والدفع باتجاه تفجير المعادلة الحالية في العراق بتحريض قواه على بعضها بعضاً وسحب الوسط وكردستان من الصراع المندلع في بغداد والجنوب، علماً انّ التظاهرات الشعبية في العراق هي حركة أصيلة معادية للفساد السياسي المتسلط على معادلة الحكم في العراق إلا ان قوى سياسية ملتبسة وطامحة الى الاستئثار بالسلطة تحاول جذبها على الطريقة اللبنانية، اي نحو العداء للحشد الشعبي بذريعة انه إيراني.
كما يحاول الأميركيون تفتيت الشرق والشمال في سورية بتغطية الاحتلال التركي لنحو 13 ألف كيلومتر مربع في العمق السوري المواجه والعودة الى دعم الكرد في منطقة مماثلة من وسط الشرق وحتى الحدود برعاية قوات أميركية تستولي على النفط في تلك المناطق. وهذا من شأنه عرقلة عودة الدولة السورية الى كامل أراضيها لذلك لا يمكن فصل ما يجري في لبنان عن المستجدات في الإقليم مع التأكيد على أنّ التحركين الشعبيين في العراق ولبنان محقان في تصدّيهما لأسوأ فساد سياسي في العالم، التهم حقوق الناس ناهباً المال العام ومهملاً كل ما يفيد الطبقات الفقيرة والوسطى.
نحن اذاً امام محاولات لإعادة تشكيل حكومة لبنانية جديدة وفق ثبات موازنات القوى النيابية لمصلحة التيار الوطني الحر وحزب الله وتحالفاتهما.
او استناداً الى أوهام «قوات جعجع» والجميّل وجنبلاط فإنّ الحراك الشعبي هو عامل يضاف الى توازنات القوى وقد يرجّحها لمصلحتهم، حسبما يعتقدون ولله هنا في خلقه شؤون! للأمانة فإنّ ما قاله جنبلاط بعد استقالة الحريري يوحي بنزوعه الى التسوية مع حزب الله إنما على قاعدة تحصيل ما يعتبر أنه له وسطا عليه باسيل.
كذلك فإنّ جعجع والجميّل ليسا بعيدين عن تسوية تعيد اليهما ما فقداه في حركة الصعود الباسيلية.
بيد أنّ كلّ هذه القوى لن تتمكن من التمرّد على التعليمات الأميركية السعودية التي تتجه الى استحداث أزمة حكم، وذلك بدفع حلفائها اللبنانيين الى طرح شعار تجريد حزب الله من سلاحه كشرط اساسي لأيّ تسوية. وهذا يعني في العمق رفع التغطية الدولية الإقليمية عن لبنان ودفعه الى صراعات داخلية عنيفة.
ماذا الآن عن الطرف الآخر؟ لن يتنازل التيار الوطني الحر عن حصته الأكبر في موازنات القوى المسيحية والوطنية لأنه يمسك بـ 29 نائباً مسيحياً يضاف اليهم بشكل غير مباشر الأرمن والمردة وبعض المستقلين.
من جهته يتمسّك حزب الله برجحانه بدءاً من انتصاراته في الإقليم وشعبيته الجارفة شيعياً ووطنياً ما يتيح له التمسك بالعديد من النقاط وفي طليعتها دوره في الدفاع عن لبنان من الإقليم والجنوب، وهذا كافٍ لتشريع سلاحه حتى إعادة بناء جيش قادر على الدفاع عن البلاد.
ويميل حزب الله منذ عقد تقريباً الى الوجود النيابي والوزاري المباشر في مؤسسات الدولة، كوسيلة لتأكيد وجوده السياسي في عرينه اللبناني انما بأشكال لا توازي أبداً أهمياته الجماهيرية الكبيرة وأدواره الجهادية، فالفيتكونغ حرروا فيتنام من الاحتلال الأميركي منذ ستة عقود فتسلموا السلطة موحِّدين شطري بلادهم الجنوبي والشمالي في دولة واحدة بقيادتهم.
اما حزب الله الذي حرّر القسم الأكبر من لبنان في جنوبه وشرقه مدافعاً عنه ايضاً في ميادين سورية فيكتفي بثلاثة وزراء من ثلاثين لديهم حقائب وزارية لا يقبل بها أحد من القوى النيابية، ويرفض منافسات القوى الشيعية الأخرى في الانتخابات النيابية.
لذلك فالحزب يعتبر أنّ تمثيله الوزاري الضئيل ضرورة لمراقبة «الداخل السياسي اللبناني» وله إيضاً إصرار على تمثيل حلفائه الدروز والسنة والمسيحيين والقوى القومية والوطنية، وذلك لصيانة الساحة الوطنية من التجاذبات وتأكيد موازنات القوى الراجحة لمصلحة حلفه، مؤكداً تمسكه بقيادة الرئيس نبيه بري الذي أثبت جدارته في التسويات الوطنية.
بالنتيجة فإنّ تشكيل الحكومة أمر ممكن في حال القبول بنتائج موازنات القوى الحالية وفي إطار وضع خطته لتلبية مطالب اللبنانيين في القضاء على الفساد السياسي واسترجاع المال المنهوب والأملاك البحرية والبرية وضبط الإدارة والجمارك والقضاء والجامعة وتأمين المستلزمات الاساسية من كهرباء وماء ونظافة وامان.
اما اذا أصرّ الحلف الخارجي على دفع البلاد نحو ازمة حكم فإن التيار الوطني الحر وحزب الله والرئيس بري ذاهبون نحو استشارات نيابية ملزمة تنتج حكومة جديدة او الاكتفاء بحكومة تصريف الأعمال الحالية.
إلا انّ هناك همساً بمحاولات أميركية سعودية فرنسية لجذب التيار الوطني الحر نحو حلف جعجع جنبلاط بما يؤمّن أكثرية معادية لحزب الله تستطيع فرض شروطها في الحكومات المقبلة.
لكن هناك عقبة تمنع اكتمال هذا الاحتمال، وهو أنّ النواب الشيعة الـ 28 هم بكاملهم مؤيدون لحزب الله وحركة أمل ما يؤدّي الى إجهاض تشكيل ايّ حكومة ليس فيها أيّ طرف من المذاهب اللبنانية، وهذا يمنح تحالف حزب الله قوة اضافية.
لبنان الى اين؟ يتجه الى صراع بين أزمة حكم مدمّرة وبين تشكيل حكومة فيها كلّ الأطراف، وبندقية حزب الله هي الفيصل القادر على ترجيح الكفة لمصلحة الاعتدال الداخلي.