اقترنت بفلسطين شريك حياة وقضيّة وخاضت غمار الرواية والبحث الأدبيّ
توفت الأديبة والروائية المصرية رضوى عاشور الأحد الفائت، بعد صراع مع المرض، عن عمر 68 عاماً، ولها العديد من الأعمال الأدبية الخالدة، والكثير من الأدباء والمثقفين الذين تتلمذوا عليها.
ولدت عاشور في القاهرة عام 1946، ودرست في كلية الآداب، حيث نالت ماجستير في الأدب المقارن. ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث نالت دكتوراه في الأدب الأفريقي الأميركي، وحاضرت في كلية الآداب في جامعة عين شمس، وكانت أستاذة زائرة في جامعات عربية وأوروبية، وهي زوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي.
أصدرت عاشور العديد من الأعمال النقدية مثل «الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفانى» 1977 ، «التابع ينهض: الرواية في غرب أفريقيا» 1980 ، «في النقد التطبيقي: صيادو الذاكرة» 2001 ، و»الحداثة الممكنة: الشدياق والساق على الساق: الرواية الأولى في الأدب العربي الحديث» 2009 . وفي مجال القصة والرواية، صدر لها العديد من الأعمال الهامة كان أولها «أيام طالبة مصرية في أميركا» 1983 ، تلتها روايات «حجر دافئ»، «خديجة وسوسن وسراج»، والمجموعة القصصية «رأيت النخل»، ثم أصدرت عملها الأشهر «ثلاثية غرناطة» المقسم إلى ثلاثة أجزاء «غرناطة» و»مريمة» و»الرحيل»، فضلاً عن رواية «أطياف» و»قطعة من أوروبا»، و»الطنطورية»، وسيرتها الذاتية التي صدرت حديثاً تحت عنوان «أثقل من رضوى».
حازت عدداً من الجوائز المهمة، ففي كانون الثاني 1995 نالت جائزة أفضل كتاب لعام 1994 عن الجزء الأول من «ثلاثية غرناطة»، على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، وفي تشرين الثاني 1995 نالت الجائزة الأولى من المعرض الأول لكتاب المرأة العربية عن «ثلاثية غرناطة».
كما نالت جائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب في اليونان عام 2007، وجائزة تركوينيا كارداريللي في النقد الأدبي في إيطاليا عام 2009، وجائزة بسكارا بروزو عن الترجمة الإيطالية لرواية «أطياف» في إيطاليا عام 2011، و»جائزة سلطان العويس للرواية والقصة» عام 2012، فضلا عن تكريمها على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2003 ضمن 12 أديباً عربياً.
الكاتب الأردني الياس فركوح قال عن الأديبة الغائبة: «تمتلك الروائية رضوى عاشور ثلاثة أبعاد لشخصيتها، في البعد الأول هي الناشطة السياسية طوال أربعين عاماً الماضية. ناشطة سياسية على نحو علني، امتلكت الجرأة في إعلان موقفها الصريح المناهض لحكم مبارك، وعبرت عن موقفها المناهض هذا في المجالات النسوية والأكاديمية والحزبية أو السياسية. ومجالها الثاني هو المجال الأكاديمي كمدرسة جامعية شاركت في صوغ إحدى الموسوعات ذات البعد العلمي العالمي بالإعداد والتحرير والترجمة. وتميزت في البعد الثالث أي البعد البحثي من خلال كتابيها «التابع ينهض» الذي كرسته لإضاءة جوانب مختلفة لدى عدد من الكتاب الأفارقة، وكتاب «الطريق إلى الخيمة الأخرى» الذي خصصته لدراسة أدب الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني. كما أنها كتبت السيرة الذاتية وكرست كتاباً كاملاً عنوانه «الرحلة» عن تجربتها في أميركا خلال دراستها الأكاديمية العليا حيث تتشابك الخطوط في حضن الذاكرة وتتوسع المشاهد على رؤية مستفيضة لأيام مضت. أما في الحقل الروائي فقد حظيت بالشهرة الأوسع من خلال روايتها «ثلاثية غرناطة» غرناطة، مريمة، الرحيل التي حاولت من خلالها أن تؤرخ للتاريخ العربي. أما روايتها «الطنطورية» وتجسد بشكل جلي اهتمام الكاتبة المصرية بالقضية الفلسطينية على المستوى الأدبي والروائي، ورغم أنه لا يمكن فصل الهم الفلسطيني عن همّ أي مثقف عربي حقيقي وحر، إلا أن اقترانها بالشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي لعب دوراً في معايشتها التجربة والمعاناة عائلياً وشخصياً وجعل القضية الفلسطينية أحد البؤر الأساسية في حياتها».
الناقد الفلسطيني فيصل دراج قال: «رضوى عاشور من تلك القلة النادرة التي اختصرت معنى المثقف في مفردة واضحة هي: الممارسة الأخلاقية، فقد بحثت في كل حياتها عن الحقيقة والحقيقي ولم تكن تنظر البتة إلى ما هو مفيد أو يؤمن لها مصلحة ذاتية، وبسبب هذا الوضوح كانت مقبولة من طرف، مرفوضة من طرف آخر، دافعت عن الديمقراطية ومصالح الناس البسطاء وكانت رائدة في محاربة التطبيع والالتزام بقضايا الشعب الفلسطيني. لم تكن تؤثر الكلمات الكبيرة مثل المثقف الثوري أو اليساري أو الملتزم بل كان لها تعبير مفضل هو: المثقف الوطني الذي يتكئ على معارفه لأجل هدف محدد هو توليد هوية وطنية مستقلة حرة تنفتح على الموروث العربي الإسلامي وتقبل بالثقافة الكونية الحديثة، متمسكة دوماً بمفردات الاستقلال الوطني والتحرر الاجتماعي والدفاع عن المستضعفين. كانت رضوى في اهتماماتها الثقافية المتعددة صاحبة مشروع كتابي يوحد بين الكتابة والسياسة ويشتق دلالة الطرفين من ذاكرة تاريخية يقظة ونقدية. ولهذا ذهبت في زمن الانكسار إلى غرناطة وكتبت ثلاثيتها المشهورة محاورة أمجاداً عربية قديمة، والتفتت إلى معنى التبعية والاستعمار وكتبت روايتها «قطعة من أوروبا» وعادت إلى الهموم الفلسطينية لاحقاً في زمن بدا فيه انكسار الفلسطينيين واضحاً وكتبت روايتها «الطنطورة» منجزة عملاً أدبياً يجمع بين الفني والقول المسؤول. مارست النقد الأدبي ولم تنس الرواية فقاربت غسان كنفاني في دراسة عنوانها «خيمة عن خيمة تفرق» وقدمت دراسة ممتازة عن الزيني بركات وجمال الغيطاني، وكانت واعدة في النقد بقدر ما كانت واعدة في الكتابة الروائية، وما يلفت النظر في هذه المثقفة الأخلاقية بامتياز هو الدأب والمثابرة والاتساق والطموح إلى إنجاز أعمال أدبية نموذجية. ولعل من يقرأ عملها الأول «حجر دافئ» ويتأمل عملها الأخير «أثقل من رضوى» يُكبر تلك المثابرة الراقية ويُكبر ذلك الجهد الجميل الذي أوصلها إلى نثر أدبي يقترب من الندرة. رضوى من ذاك الجيل الذي جمع بين العمل والتمرد وبين الثورة والبراءة، ففيها أشياء من يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل وإبراهيم أصلان، وفيها أشياء من رسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي الذي حاورَته أكثر من مرة. رضوى عاشور مبدعة أصيلة علمتنا قيما صعبة وضرورية أولها الصدق الأخلاقي على مستوى الممارسة اليومية وثانيها الصدق الفني على مستوى التجريب الإبداعي وثالثها الابتعاد عن المواقف الانتهازية الموسمية».
الكاتب العراقي حسين الموزاني قال: «استهلت الكاتبة المصرية رضوى عاشور حياتها الأكاديمية بدراسة عن أعمال الكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني، فكانت تدرك تماماً أهمية هذا الاختيار الثوري الذي التزمت به طوال حياتها، فهي تنتمي إلى طائفة من الكتّاب المصريين، وخاصة الكاتبات اللواتي غلبت على أسلوبهن النبرة العربية والرغبة في الوحدة والاتحاد والدفاع عن الهوية الثقافية المشتركة أيّ أنّها خرجت من محليتها المصرية المحض، رغم غنى هذه المحلية وتنوعها الذي لا ينضب معينه. ارتباطها الوثيق بفلسطين تجلى منذ سنوات الدراسة، وفي الارتباط بمريد البرغوثي رغم الثمن القاسي لكونها ابنة عائلة أرستقراطية. التقيتها مرّة واحدة في حياتي وكانت تجلس مع زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي في مؤتمر عن الرواية العربية نظمته جامعة القاهرة عام 1992. وتحدثت معها قليلاً عن جيل الستينات في مصر والنزعة الناصرية في الكتابة، ثم تحدثنا قليلاً عن روح المقاومة في الأدب. فقالت إنّها ما زالت من المقاومين ولن تتخلى عن هذه الروح. فرأيت امرأة ذات ملامح غاية في الطيبة والإصرار والتحدّي. لم ينطق زوجها مريد البرغوثي بكلمة واحدة، لأنه كان واثقاً من قوّة شخصية زوجته، المناضلة اليسارية التي أوقفت حياتها كلّها على مقارعة جميع أصناف الاحتلال، وخاصة احتلال فلسطين من قبل الاستعمار الصهيوني. خاطبت رضوى عاشور فلسطين رمزياً بثلاثيتها عن غرناطة والتي كتبتها بعد اجتماع مدريد بين الحكومة «الإسرائيلية» ومنظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية المحيطة بـ»إسرائيل»، وذلك لتصفية القضية الفلسطينية. فكتبت في روايتها تقول: «سينكّلون بنا بعد التسليم، والمعاهدة ليست إلا ورقة لا قيمة لها. ولو سلّمناهم غرناطة سيفرضون علينا الركوع حين يمرّ ركب القساوسة، ويرغموننا على الحياة في حيّ مغلق ليس له إلا باب واحد، ويشرعون سيف الترحيل على رقابنا». كان قولها بمثابة نبوءة عن فشل مؤتمر مدريد وأوسلو بعده. وهكذا ضاعت غرناطة إلى الأبد وصفّيت قضية فلسطين وأخفقت الثورة الشعبية في العالم العربي، وفي مصر خاصة، عن تحقيق أهدافها. ثمّ حلّ الخريف، هذا الفصل العجيب الذي يرحل فيه الشعراء والفنانون والكتّاب، والكاتبات عادة».
الكاتب الفلسطيني محمود الريماوي قال: «فوجئتُ بخبر رحيل رضوى عاشور رغم معرفتي بمرضها الذي قاومته ببسالة منذ 15 عاما على الأقل. كانت الشجاعة جزءاً أصيلاً من تكوين هذه السيدة الرصينة والموهوبة التي تستند إلى فكر يساري مقاوم ومنفتح. يصعب عليّ رثاؤها إذ ظلت على الدوام شعلة حياة وصمود، ونموذجاً في الوقت ذاته للطف والوداعة. إنها تنتمي إلى جيل مصري وطني وعروبي لا يقيم حدوداً بين الوطنية المصرية والعروبة الحية، ويجمع بين الشأن الوطني والاجتماعي والتغيير الثقافي في وشائج متضافرة. وكحال زوجها ورفيق قلبها وعمرها الصديق الشاعر مريد البرغوثي الفلسطيني المصري، ظلت رضوى عاشور على الدوام مصرية عربية فلسطينية، وكانت ناشطة أكاديمية وثقافية بارزة ومتميزة منذ عهد السادات وما تلاه من عهود تمّ فيها وضع القضية الوطنية المصرية على تنافر مصطنع ومتعمّد مع العروبة ومع قضية فلسطين ومع حركة التحرر العربي ككل، بل حتى مع الانتماء العربي التاريخي لمصر. رحلت رضوى وما زالت مصر والثقافة العربية في حاجة إلى مثل هذه القامة التنويرية والمبدعة ، والعزاء أن آثارها الإبداعية حية وباقية على الدوام وقيمتها تتجدد مع الأيام، وذكراها حية ودافئة في القلوب.