«كمب دايفيد» جديدة تستلهم «هيرودوت» الإغريقي
د. وفيق إبراهيم
معاهدة كمب ديفيد الاولى نموذج 1979 أخرج الأميركيون بموجبها مصر من قيادة مداها العربي متسببين بتدمير نظام عربي عام كان فولكلورياً وواهناً. لكنه كان مقبولاً بالحد الأدنى.
منذ تاريخه تتوالى الانهيارات العربية من شمالي افريقيا الى اعالي العراق وحدود السودان مع مصر وافريقيا وصولاً الى البحر المتوسط عند سواحل سورية. الاستثناءات هنا قليلة وتشمل دول المغرب والخليج إنما بشكل نسبي.
لجهة كمب دايفيد الجديد فهو سدّ النهضة الإثيوبي الذي يحجز في سنتين فقط أكبر كمية ممكنة من مياه نهر النيل، ما يؤدي الى تدمير تدريجي للزراعة في مصر وصولاً الى تهجير فلاحيها من أريافهم الى مدن هي أصلاً تحت ضائقة اقتصادية هائلة وينزح عنها ابناؤها الى بلدان الاغتراب في كندا واوستراليا وأفريقيا والخليج.
المشكلة اذاً هي في فترات تخزين السد الذي ينتهي العمل بإنشائه في 2022 وهي فترات تخزين تؤدي الى إنقاص حصة مصر من مياه النيل من 55 مليار متر مكعب الى 20 ملياراً فقط، وتتسبّب أيضاً بأضرار على حصة السودان.
علمياً، فإن خسارة بلد ما لنحو 64 في المئة من مياهه التاريخية التي اعتاد على استهلاكه لهي اكثر من كارثة وطنية، وتذهب الى حدود تمزيق الكيان السياسي بضرب استقراره المائي وبالتالي الزراعي والاجتماعي والسياسي وصولاً الى الكيان.
فما يبدو أن الظاهر الإثيوبي من سد النهضة هو تلبية حاجات الحبشة من الكهرباء والمياه أما عمقه ففي مشاريع القوى الأساسية الداعمة وهما الولايات المتحدة الأميركية و إسرائيل .
فإذا كان أبو التاريخ هيردوت الإغريقي الذي جال في مصر قبل ثلاثة آلاف عام قال بأم مصر هبة النيل ولولا النيل لكانت مصر صحراء جرداء، فهناك من يطبّق نظرية هيردوت انما بالمقلوب، وبناء عليه فإن حرمان مصر من مياه نيلها يؤدي في أحسن الأحوال الى تحولها دولة قانعة بشظف الحياة، تعمل على تصدير شبابها الى الخارج، اما الأسوأ فاتجاهها الى تفكك فعلي وانتهاء مصر التاريخ التي عاينها ذلك المفكر اليوناني في وقت لم تكن كل البلدان العربية قد تأسست باستثناء اليمن وسورية والعراق.
هناك احتمال ثالث وهو أن يرعى الأميركيون استمراراً لمصر ويحتفظ الأميركيون بمفاتيح تدميرها لحين الحاجة، أما الوسيلة الدائمة هنا فهي سد النهضة مع إمكانية استحداث سدود جديدة في خمس دول أفريقية يمرّ منها النهر الخالد قبل وصوله الى مصر.
بمعنى أن الأميركيين يضغطون لإقناع الأثيوبيين بتسوية تمدّد فترات تخزينهم للمياه من سنتين الى اربع، فيصل الى مصر بين 35 و 40 مليار متر مكعب، وعندما تغضب واشنطن من القاهرة لسبب سياسي ما تعاود السماح للإثيوبيين بملء سدهم في سنتين فقط.
ما يؤيدي الى تفجير مصر داخلياً.
قانونياً حجة مصر هي الأقوى وسبق للاستعمار الانجليزي في بداية القرن العشرين ان ربط بلدان مجرى النيل بمعاهدات تمنع استحداث كل ما يعيق حصة مصر من مياه النهر على طول مجراه من بحيرة فكتوريا وحتى حدوده مع السودان. هذا بالاضافة الى ان الامم المتحدة تلجأ في النزاعات المائية بين الدول وفي غياب المعاهدات المنظمة الى العرف والعادة المعمول بها تاريخياً في استخدام مياه الانهر العابرة للحدود، هناك أيضاً اتفاق إعلان المبادئ واتفاقية الامم المتحدة لحماية الأنهار لعام 1997.
كل هذه العناصر تعطي لمصر الحق بالمحافظة على حصتها مع ربطها بتقلبات المناخ ضمن معدلات احتجاب الأمطار او ازديادها.
المسألة اذاً تذهب في استغلال أميركي إسرائيلي لحاجات إثيوبية فعلية تطورت عن الحاجة الفعلية للحبشة لتصبح مشروع سد كبير لتلبية حاجاتها الداخلية وبيع الكهرباء الى افريقيا واوروبا.
فإذا كان الجانب المرتبط بالحاجة الداخلية الحبشية قابلاً للنقاش، فإن الاجزاء المتعلقة ببيع الكهرباء والمياه هي جوانب سياسية خالصة تستهدف مصر بأمنها واستقرارها.
لذلك فالأهداف واضحة، وما لم تحققه حركات الارهاب الاخوانية والداعشية في مصر، يحاول الأميركيون تحقيقه بالمياه الهيرودوتية .
المطلوب اذاً الاستمرار في إضعاف الدور المصري داخلياً وفي الإقليم، فجاء سد النهضة ومعه السيسي من أفضل الوسائل للاستمرار في ضبط مصر في السجن الأميركي الاسرائيلي.
لقد كان بإمكان الدولة المصرية التدخل السياسي منذ بدء العمل بالسد قبل سنوات عدة، لكنها تغافلت واكتفت بتصريحات لم تمنع إثيوبيا من تأمين كلفة بنائه المقدرة بـ 4.8 مليار دولار اكتتب الشعب الإثيوبي بثلاثة مليارات منها، وقدمت الصين 1.8 مليار سندات طويلة الأمد مقابل التزامها أعمالاً فيه مع عقود اقتصادية في مجالات متنوّعة.
هنا لا بد من التمييز بين الاهداف السياسية المختبئة خلف التأييد الاسرائيلي لسد النهضة وبين المشاركة الصينية التي تريد توسعاً لدور بكين الاقتصادي في العالم.
فهل يجري التعويض عن التراجع الأميركي في الشرق الأوسط بفتح ملف حروب المياه؟
الجبهة المائية المصرية مفتوحة على مصراعيها في بلد يعتمد على مياه النيل بمعدل 90 في المئة من استهلاكه، والدور المقبل هو على سورية والعراق اللتين تعتمدان بمعدلات عالية جداً على مياه دجلة والفرات التركيي المنبع.. ترقبوا إذاً الفصل المقبل من حروب المياه في دمشق وبغداد.