«عداء الطائرة الورقية»… البحث عن كرسيّ شاغر للحضور!
محمد رستم
منذ البدء.. نلحظ أنّ الكاتب خالد الحسيني لم يستطع الخروج من شرنقة طفولته الساذجة، في رؤيته لمأساة بلده أفغانستان والتي جسّدها في مرويّته «عداء الطائرة الورقية» التي لاقت رواجاً كبيراً في شارع الأدب، إذ لم يلتقط الإشارات الحقيقيّة التي أوقدت نار حرب الأخوة، تلك الحرب السريّة القذرة بين الكبار ومحرّكها الأساسي الإمبرياليّة الأميركيّة، مما جعلها تبدو أميركيّة المؤدّى تتخفّى في عباءة المأساة الأفغانية.
وفي حين أن الكاتب وقف إلى جانب المحرومين في التعاطف الاجتماعي إلا أنّه جنح في السياسة نحو الرؤية الأميركيّة متهماً الروس بتدمير بلده متجاهلاً أن الانقلاب الذي دعمه الروس كان لتطوير أفغانستان، يقول «احتلال روسي يدمّر ويترك كابل مدينة أشباح»، ومع أنّه كذلك يتهم التحالف الذي تقوده أميركا، لكنّه يعود ليقول «عشقت أميركا» وهذه ازدواجيّة غير مسوّغة.
من عتبة الرواية العليا «عداء الطائرة الورقيّة» نبدأ بالقول بأن هذه الرواية تصوّر الطفولة بكل أبعادها وأحلامها والعداء الذي يركض وراء أحلامه في فضاءات الحياة، والطائرة ورقيّة رقيقة، ضعيفة، كالطفولة التي تشكّل سفيراً للوجع الإنساني وهي أكثر المتضررين من ويلات الحرب كما أنّها رمز للطيران في فضاءات الأماني نحو الحلم الأخضر.
منذ الصفحات الأولى يتضح أنّ الهمّ الإنساني الذي تحمله شواغل الرواية هو الضمير المستتر فيها. حيث تطرح القضايا الاجتماعيّة برؤية إنسانيّة مجسّدة الأخوّة الإنسانيّة بين المكوّنات الطائفيّة والطبقيّة من خلال «الرضاعة من ثدي واحد»..
الرواية مفعمة بالدلالات والإسقاطات والرموز ومغمّسة بالوجع الإنساني وعلى هامش الأحداث تعرض قضية التفاوت الطبقي، موضحة حقيقة الأثرياء، فهم ليسوا أكثر من سيّاح في بلدهم، إذ ليس لديهم مرساة مغروسة في تربة الوطن كالفقراء.. والبلد لا يعدو كونه بقرة حلوباً في نظرهم وتظهر الرواية انسحاق الفقراء تحت تأثير الضغط الطبقي حين يقدّم حسان الفقير الشراب لمغتصبه الثري آصف.
أفغانستان بلد التضاد والتناقضات، ثراء فاحش وفقر مدقع، الحضارة إلى جانب البداوة والتخلف، أمير سيّد وحسان خادم له، سوق بازار ووحل، حشد من التجّار والمتسولين «تستطيع شراء درج مذبوح أمام كشك وآلة حاسبة من الكشك المجاور، سوق بازار ووحل، مجتمع يتنعم أثرياؤه بينما يخوض فقراؤه في مجارير العالم السفلي بحثاً عن لقمة العيش، هذه الأفغانستان متورطة سلفاً بدفع فاتورة الحساب ولعب دور الكومبارس على المسرح الدولي».
والمؤدّى الفكري للرواية سام، حيث يرتكز على محمولات إنسانيّة واجتماعيّة راقية «العدالة والمساواة، المحبّة ورفض العنف والتمييز الطائفي والطبقي ورفض التشدّد»، التحالف دمّر كابل أكثر من الروس وعندما أتت طالبان اعتبرناهم أبطالاً لكن طالبان كانت أكثر بشاعة.. وتبدو المرويّة وكأنّها طفل يتحدّث بكلام الأنبياء وبحروف قطعيّة لا تقبل القسمة على الشكّ..
الرواية تُظهر التخلّف الذي يرزح تحت وطأته مجتمع وقع في مخالب طالبان فتبدو الجماهير الأفغانيّة كائنات مستلبة فكريّاً، وحين حضرت الحرب أصبحت الحياة قاسية كوجه مقبرة. فأمست الأمّة مجرد ركام بشري يتقاذفه طمي الأهواء وإذا جاءت الحرب مفاجئة غير مدرجة على روزنامة المواعيد فإنّها بالتّأكيد كانت موضوعة على طاولة الاحتمالات بالنسبة للاعبين الكبار.
وفي الوقت ذاته، الرواية إدانة صارخة للحرب وما تركته من جرائم وتشريد وتشويه حوّلت بابا من ثري إلى لاجئ يعمل طوال النهار أعمالاً مجهدة ..
هي حرب في مجتمع مكشوف الظهر غارق في التراثيّات السائبة عالق في شباك عنكبوت الوصايا وطمي الاستلاب والخوف مطعون بالركود والخنوع. ومجتمع كهذا لا بدّ أن ينزّ حقداً طائفيّاً على مساحة خطوطه طولاً وعرضاً. جسّدت المرويّة الحقد الطائفي من خلال احتقار «الهازار» الشيعة وتمجيد «البشتون» السنّة.. من الرواية إنّه هازاري بائس ليس إلّا ، ويذكر الكاتب أنّ أغلب الخدم من «الهازار» وكأنّ بنية الرواية تقوم على ذلك. ولعلّ نظرة الكاتب الدونيّة إلى الهازار دفعته إلى تصوير صنوبر أم حسان على أنّها ذات سمعة سيّئة بينما أم أمير «أميرة» ووالد أمير «يصارع الدب بيديه العاريتين» بينما يبدو علي «الهازاري» مشوهاً فزاعة وهو لا يمتلك نانغ وناموس وكان منيعاً ضدّ الإهانات على عكس بابا الذي يجسّد النانغ والناموس كغيره من «البشتون».
الهازار يلقّبون بأكلة الفئران وذوي الأنوف المسطّحة وحمير التحميل وحادثة دهس والد علي وأمه من قبل شابين بشتونيين ثملين وخلاصة الحكم الهزيل بحقّهما تدل على انعدام القيمة الإنسانية والاجتماعيّة والحقوقيّة للهازار.
وتجلّى الشر والحقد الطائفي والنازيّة في آصف الذي تبلّلت يداه بالجريمة وكأنّ التعصّب الطائفي الوجه الآخر لعملة النازيّة فهو انتهازي متلوّن يميل مع النعماء، بارك الجمهوريّة وأصبح من قادة طالبان، مثله الأعلى «هتلر» بينما الشاهنامة هي الكتاب المفضل لدى حسان إشارة إلى الفرس أو الشيعة وحسان السني الأب والشيعي الأم يجسد الحالة الإنسانية الصحيحة ويؤكد كذب الانتماء الطائفي فالنسب يحدد الهويّة الطائفيّة للشخص.
في الرواية مسلكان من الصراع يخلقان الحكائيّة فيها صراع خارجي تمثله الحروب والصراع الطبقي وما تركه جبروت طالبان وتجلّى بالمقارنة بين القسر الفكري لطالبان والحريّة في أميركا. ومسلك نفسي داخلي يمثله إحساس أمير بالعجز والانكفاء. إنّه يعاني من متلازمة كره العنف ويقاسي من فرط اختناق روحي فهو لا يدافع عن نفسه وبدا مصلوباً على خشبة الكره الطائفي والحرب والدم والفارق الطبقي فجاء نموذجاً للإنسان المسالم وكأنّه المهاتما غاندي.
وعلاقته غير السويّة مع أبيه «كنتُ دائماً أشعر أن بابا يكرهني قليلاً ولم لا.. لقد قتلت زوجته المحبوبة.. أميرته الجميلة»، وفي هذا اتّكاء على عقدة أوديب.. ولعلّ الخلل النفسي لديه مردّه إلى أنّ البيت الذي نشأ فيه كان مغسولاً من حنان ودفء وعطر الأمومة وقضم الأظافر عند أمير يدل على التوتر وحالة الانكسار والإحباط وعدت أنا إلى الإبحار في حافظ وخيام وقضم أظافري حتى اللحم .. إنّ أمير يعاني من النوسان والتأرجح بين إحساسه بالانتماء لطبقة الأثرياء وبين الإحساس الإنساني الأخوي حيث عاش مع حسان كصديق بل كأخ وحسان يذود عنه ويضحي من أجله وينفذ مشيئته ولعل إحساس أمير بالذنب يعود لأنّه بسبب جبنه لم يقم بمساعدة حسان في الدفاع عنه بالرغم من تضحية حسان وتعرّضه للاغتصاب مقابل الحصول على الطائرة الورقية والتي سترفع من رصيد أمير عند والده . فبات يؤرقه رسول الفضيلة وتسربلت روحه بوحشة الاستهجان فصار يرى في حسان قميص عاره وغدا يئن تحت صهيل الوجع إذ بدت الحياة لديه عنق زجاجة فانعدم ملبس الفرح في أعماقه يقول عن حسان إخلاصه الملعون يؤرّقني.. ، لقد جعل الكاتب من حسان وأمير مثالاً للتضاد.
في الفارق الطبقي الثراء والفقر والمكانة الاجتماعيّة السيّد والخادم والاختلاف الطائفي السني والشيعي والتمايز النفسي الشجاعة والجبن والفارق الثقافي المتعلم والجاهل ولاختلاف في الهيئة «حسان بشع أمير حسن الهيئة»… هذا وقد عقد الكاتب مشابهة بين سهراب وأبيه حسان كلاهما يجيدان استخدام المقلاع كما أنّ هناك مشابهة بين سهراب بن حسان وسهراب في الشاهنامة فحكايتهما تراجيدية.. لعل قيام بابا بأعمال حسنة ومساعدة الآخرين للتكفير عن ذنبه حين وطأ زوجة علي وأخفى عن حسان أبوّته له. فكان بذلك أوّل من انتهك أستار الحكمة التي يرددها عن السرقة.
هذا وقد جاءت الشخصيات نمطيّة ذات لون واحد وواضح أنّ شخصية أمير شخصية مخبريّة أكثر منها حياتيّة. كما أنّ التسميات في المرويّة ذات دلالة فاقعة علي، رمز للشيعة. سوهراب رمز للضحية، آصف رمز للمتانة والصلابة وبلغة سرديّة متألقة تخترقها بعض المفردات الأفغانيّة، دخل الكاتب إلى تفصيل التفاصيل مما شكّل شبحاً للترهّل، لكن عنصر الجذب والتشويق بقي مسيطراً. هذا وقد شكّلت الرواية معادلاً موضوعيّاً لآلام مجتمع غارق حتى النخاع في تخلّفه.
والرواية تتمطّى على سرير السيرة الذاتيّة وتتكئ على وسادة الحرب والفوارق الطبقيّة معتمدة الأرضيّة النفسيّة في الكشف عن الكثير من المواقف، معتمدة الخطف خلفاً في عرض الأحداث فجاءت المرويّة توليفة شائقة تأخذك نحو مرامي الأسئلة المباحة، كملحمة للهم الإنساني الأزلي في المساواة على قياس الحياة في كل مناحيها.
كاتب سوري