الدين العام والمعالجات: أين كنا وأين أصبحنا…؟
د. نزار يونس
عذراً، للعودة إلى كتاب لبنان الآخر من المحاصصة الى الدولة ، الصادر عن دار المسار في عام 2000، والذي تناول محاذير السياسة المالية الخرقاء وسوء إدارة الدين العام.
في عام 1999، يوم صياغة كتابي، كان الدين العام ما زال في حدود العشرين مليار دولار، وقد خصّص الجزء الأكبر منه لإعادة إعمار المرافق العامة – مع ما رافق ذلك من هدر وتبذير- وبدلاً من العمل على معالجة الوضع لتسديد الدين أو تخفيضه على الأقلّ، استمرّت الدولة في سياستها اللامسؤولة واستمرّ الدين العام في التضخّم ليتجاوز بعد عشرين سنة، أربعة أضعاف ما كان عليه حينذاك.
يتبيّن من أرقام الواردات والنفقات المحققة للدولة اللبنانية منذ عام 2000 وحتى اليوم التالي:
1 ـ التوازن الإجمالي بين الواردات المحققة والنفقات المستحقة، هذه النفقات التي تتضمّن كامل قيمة الهدر في إدارة المرافق العامة، بالإضافة الى كلفة العجز في قطاع الكهرباء، والتضخّم السرطاني في أعداد وأجور القطاع العام، ولم يُفرد فلس واحد من هذا الدين للنفقات المتوجبة.
2 ـ بلغ مجمل الفوائد التي استحقت على الدين العام منذ عام 2000، وحتى العام 2018 ما يناهز ستة وستين مليار دولار، وهذا المبلغ يتجاوز مجمل الزيادة التي طرأت على الدين العام منذ العام 2000 وحتى هذا التاريخ.
3 ـ يستخلص من ذلك انّ الحسابات المالية للدولة اللبنانية سجلت خلال هذه الفترة فائضاً أولياً، لا عجزاً، وقد تمّ التعتيم بالكامل على هذا الأمر، للإيحاء بكون الاستدانة قدر لا مفرّ منه.
فمن الراهن أنّ إفلاس الدولة، والبطالة التي تفشّت في القطاعات الإنتاجية ونزيف الهجرة المتمادي الذي يعاني منه مجتمعنا، كلّ ذلك، لم يكن قدراً مقضيّاً أو نتيجة لمؤامرة خارجية أو لافتقار بلادنا للأدمغة وللموارد والقدرات. إنما، هو النتيجة الحتمية لفساد نظام المحاصصة الطائفية وللعقل الاقتصادي الخرافي لدعاة هذا النظام الذي تغاضى عن السياسة المالية والنقدية الإنتحارية وعن الكلف الفاحشة لتثبيت سعر صرف الليرة على حساب النمو الاقتصادي والاجتماعي، كما تغاضى عن سياسة إفلاس القطاع المصرفي، الذي يشكّل رافعة الاقتصاد اللبناني، بالإضافة الى النهب المتمادي للمال العام دون حسيب أو رقيب.
رجائي إفراد بعض وقتكم للإطلاع على ما كان ممكناً منذ عشرين عاماً، أمّا اليوم فلا بدّ للمعالجات أن تكون أقسى وأصعب.
مرفق: النص الكامل المقتطف من كتاب لبنان الآخر- من المحاصصة الى الدولة من صفحة 87 الى صفحة 92.
II الدين العام
بلغ الدين العام أرقاماً قياسية تخطت كلّ الحدود والخطوط الحمر المتعارَف عليها، وبات هذا الدين يهدّد بإفلاس الدولة المشلولة القدرة والمبادرة، وبكساد حادّ في المرافق الاقتصادية، وبزيادة حدّة الأزمة المعيشية.
وقد أدّت السياسات النقدية المتّبعة إلى النتائج المأساوية البارزة من خلال:
1 ـ تفاقم قيمة الدين العام، حيث بلغ متوسط العبء على الأسرة الواحدة 5 أشخاص بحدود ثلاثين ألف دولار أميركي.
2 ـ بلغ سعر صرف الليرة تجاه الدولار متوسطاً لا يتناسب مع واقعنا الاقتصادي، وقد ساهمت معدلات الفوائد التي تتجاوز في أحسن الحالات ضعفي الفوائد المعمول بها في البلدان المنافسة إلى ارتفاع حادّ في كلف إنتاجنا، مما شلّ قدرة هذا الإنتاج أو تراجعه لدى عدد كبير من المؤسسات اللبنانية.
3 ـ أدّت معدلات الفوائد العالية على سندات الخزينة، إلى توظيف ادّخارات اللبنانيين في سندات الخزينة ذات المردود العالي وإلى ضخّ سيولة المصارف في هذه السندات مما حرم الاقتصاد من السيولة وحال دون الإنفاق الاستثماري القادر على توفير فرص العمل والحدّ من البطالة.
4 ـ أدّت السياسة النقدية القائمة على تثبيت سعر صرف الليرة من خلال الفوائد المرتفعة على سندات الخزينة، إلى تحويل اقتصادنا بشكل كامل إلى اقتصاد ريعي قائم على البحث عن دور وسيط لم يعد موجوداً وعن دور خدماتي تغيّر مضموناً وشكلاً.
السياسة النقدية التي أدّت إلى الكارثة والتي ما زالت متّبعة، بالرغم من بعض الكوابح، هي في الجوهر سياسة انتحارية، لا بدّ من التخلي عنها، واللجوء إلى حلول شجاعة وصعبة في آن معاً. ولا بدّ من مصارحة اللبنانيين بكوْن زمان العجائب قد ولّى، وبأنّ على مجتمعنا أن يتحمّل مسؤوليته في قيام الدولة العصرية، على أنقاض دولة المحاصصة. كذلك لا بدّ من مصارحة المواطنين بأنّ الاقتصاد الريعي هو سبب الركود والكساد، وبأنّ الاقتصاد المرتكز على الإنتاج هو وحده القادر على تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية على قواعد اقتصادية سليمة، وأن لا بدّ لنا، للخروج من الأزمة الاقتصادية، من تأمين السيولة في أسواقنا المالية، بفوائد متدنية أسوة بغيرنا.
وللخروج من الحلقة المفرغة علينا أن نلجأ إلى:
1 ـ إنشاء صندوق مستقلّ للدين العام وإدارة هذا الصندوق من قبل جهاز رفيع الإدراك والتجربة.
2 ـ تمويل هذا الصندوق بواسطة مداخيل استثنائية للدولة بما في ذلك:
ـ بيع الأملاك العامة المهملة أو المغتصبة أو السائبة كالأملاك البحرية والنهرية، وأملاك سكك الحديد والطرق والمسالك وغيرها، وتسييل هذه الأملاك خلال 10 سنوات.
ـ فرض ضرائب استثنائية تطال الأغنياء وخاصة على المظاهر الخارجية للثروة، وفرض رسوم عالية على اليد العاملة الأجنبية على أن ينتهي مفعول هذه الضرائب والرسوم بعد تسديد الدين.
ـ تحويل المساعدات الخارجية لهذا الصندوق والعمل على تحميل إخواننا العرب قسطهم في المساهمة.
ـ تحويل ناتج الخصخصة الى هذا الصندوق.
ـ تحويل فائض التنمية.
ـ تحويل فوائد مدّخرات الدولة من العملات الصعبة إلى هذا الصندوق.
3 ـ تحويل الديون المترتبة على الدولة على عاتق صندوق الدين العام لإدارتها وتسديد الموجبات في مواعيدها حفاظاً على سمعة لبنان ومصلحة الدائنين.
4 ـ تحويل سندات الخزينة الحالية القصيرة الأمد إلى سندات بالعملات الأجنبية، حفاظاً على مصلحة المودعين وبفائدة لا تتجاوز معدل الفائدة الأساس على العملة المعنية في الأسواق الأوروبية، وتقسيط هذه السندات على عشر سنوات مع ثلاث سنوات سماح وجعلها قابلة للتداول.
5 ـ الحظر الكامل على إصدار سندات خزينة جديدة، بغية حصر الدين بما هو متوجب حالياً وإعادة الثقة بإرادتنا وتصميمنا على الخروج من الأزمة.
5 ـ تخصيص كامل موارد الدولة الحالية لحاجات الإنفاق في الميزانية وحظر الاقتراض خارج دائرة الهبات والقروض الميسّرة والمساعدات المتوافرة للحاجات الإعمارية والإنمائية، وبذلك نحقق توازناً بين دخل الدولة وانفاقها.
من الطبيعي أن تلاقي هذه الخطة اعتراضات أساسية في الشكل والمضمون، من جراء تفرّد الدولة بقرارات وإجراءات من جانب واحد تفرضها على دائنيها، وقد يكون هذا القرار في الأحوال الطبيعية مجحفاً وتعسّفياً غير أنّ الخيار الآخر المتروك للدولة هو الإفلاس الأشدّ ضرراً وإجحافاً للدائنين وللبنان معاً، وباعتقادنا أنّ الشعب اللبناني مقدِم على الخيار الشجاع الأقلّ ضرراً والذي من شأنه أن يحافظ على سمعتنا وينمّي اقتصادنا من جراء:
1 ـ وقف إصدارات سندات الخزينة ومن ثم وقف ضخ فائض السيولة من الأسواق.
2 ـ عودة العملة الوطنية إلى دائرة التعافي ووقف التدخلات الآيلة إلى تحديد سعر صرفها والفائدة عليها بشكل مصطنع، وسيؤدّي ذلك حتماً إلى اعتبار العوامل الافتصادية التي تحدّد سعر صرف العملة، كما أنها ستؤدّي إلى خفض الكلف الإنتاجية وتراجع كلفة المعيشة.
3 ـ سيؤدّي إصدار سندات خزينة بالعملة الأجنبية، قابلة للتداول، بفوائد محدودة، إلى تسييل هذه السندات من قبل أصحابها ولو بخسائر معينة بغية الدخول في مشاريع استثمارية أكثر جدوى وربحية من السندات.
تتناسب هذه التدابير مع المعطيات والآفاق المتاحة حالياً وهي خيار من خيارات عدة ممكنة، وهي بكلّ حال أفضل من الإفلاس، كما يمكن التفكير بخطط أخرى في سبيل الخروج من النفق الذي نراوح فيه.