المشهد الذي رسمته المتغيرات في سورية والعراق وحولهما

العميد د. أمين محمد حطيط

يمكن القول ومع المتغيرات الميدانية والسياسية الأخيرة أن المنطقة وبخاصة سورية والعراق وما يتصل بهما أو يتأثر بما يجري فيهما، إن المنطقة دخلت مرحلة جديدة تختلف في خصائصها عمّا كان قبلها. ونستند في هذا القول إلى ثلاثة أمور أساسية سُجّلت أخيراً وتضافرت لترسم المشهد الجديد، بدءاً من مجريات الميدان في سورية العراق، إلى الموقف الروسي الأخير الذي صدر في معرض استقبال وزير الخارجية السوري، مروراً بما آلت إليه المفاوضات المتصلة بالملف النووي الإيراني.

فبالنسبة إلى الميدان سجلت متغيرات رئيسية تصب في معظمها ضد ما يبتغيه الإرهابيون ومشغلوهم.

فعلى الاتجاه السوري نجد أن الجيش العربي السوري بات يتعامل مع كامل الأرض السورية عبر أحد عنوانين، الأول الحسم الميداني للتطهير، والثاني المشاغلة الميدانية لمنع استقرار الإرهابيين والجماعات المسلحة في أي من المناطق التي وصلوا إليها، أي بمعنى أن الجيش السوري يعمل على كامل مساحة البلاد من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، مخصصاً لكل منطقة وهدف ما يناسبهما من استراتيجية عمل وأداء عسكري. وقد حقق الجيش وحلفاؤه عبر هذا النهج الكثير من الإنجازات التي قابلها تراجع في مواقع الجماعات المسلحة بنتيجة عاملين، أولهما القدرات التي زج بها ضد الإرهابيين، والثاني حالة التناحر والاقتتال التي تحكم العلاقة بين المكونات الرئيسية الأربعة للجماعات الإرهابية داعش نصرة الإرهاب الحر-الجبهة الإسلامية .

وعلى الاتجاه العراقي، بات واضحاً أن الجيش مع ما تهيأ لدعمه من قوات الحشد الشعبي انتقل من مرحلة الاحتواء والدفاع إلى مرحلة الهجوم وتطهير الأرض من «داعش» وقد حقق على هذا الصعيد إنجازات مهمة تنبئ بقدرة العراق على التصدي للموقف والحد قريباً من الخطر الإرهابي بشكل مؤكد.

أما على صعيد الموقف الروسي وما قيل عن مبادرة روسية جديدة للسعي إلى حل سياسي أو بالتسمية المتداولة الحل السلمي، فالملاحظ أن ما قيل عنه مبادرة يختلف جذرياً عمّا كان قائماً سابقاً، لأنه ينقل البحث من حل تأتي به مفاوضات دولية يشارك بها سوريون تختارهم الدول وتملي عليهم ما تريد كما حصل في جنيف2 مع وفد ما يسمى «الائتلاف الوطني» الذي لم يكن يملك من الشأن أكثر من نقل وجهة النظر الأميركية والسعودية إلى داخل قاعدة المفاوضات، ينقل البحث إلى مفاوضات بين السوريين أنفسهم ممن ينكرون الإرهاب ويبدون الاستعداد للوقوف إلى جانب الدولة لمحاربته، على أن تكون هذه الحرب متقدمة على أي بحث سياسي ومنفصلة عن أي شأن آخر بما في ذلك الأمر الإصلاحي الداخلي.

لهذا كان القول «وداعاً جنيف» قول في محله. ما يعني أن أي حديث عن جنيف 1 وما يتصل به من مرحلة انتقالية وتسليم السلطة كما يشتهي قادة العدوان على سورية ويحلم به أتباعهم، أي حديث في هذا الشأن هو هدر للوقت وللجهد.

يبقى أن نشير إلى المسعى الروسي ترافق مع رفع روسيا لسقف دعمها للعراق وسورية معاً في حربهما ضد الإرهاب وسعيهما إلى استعادة الاستقرار والأمن في ربوعهما، وفي هذا الدعم المطلق رسالة روسية بالغة لمن يعنيه الأمر أن العودة الروسية القوية إلى المنطقة باتت حقيقة واقعة يجب التعامل معها وأن أي إنكار أو تجاهل لها لا يضير روسيا بل يلحق الضرر بالمتجاهلين.

وعلى أي حال قد لا يكون الموقف الروسي الجديد مبادرة تامة بالمعنى الحرفي للمصطلح، إنما هو مسعى لتسهيل لقاء السوريين الذين ينطلقون من الثوابت الواحدة الرافضة للتدخل الأجنبي والرافضة للإرهاب والعنف والاحتكام للسلاح والمتمسكة بسيادة سورية ووحدة أراضيها والتواقين إلى تطوير بناء سورية الديمقراطية المستقلة.

ومع هذا فإننا نرى أن حظوظ المسعى الروسي من النجاح محدودة جداً بسبب عدم وجود المفاوض أو المحاور السوري المعارض الذي يستطيع أن يجاهر بتلك الثوابت والذي يملك قاعدة شعبية تمكنه من تنفيذ ما يمكن أن يلتزمه بنتيجة المفاوضات والحوار، لأن الحكومة السورية لا تجد أية مصلحة اليوم وبعد المتغيرات الميدانية المهمة التي سجلت، أن تحاور من اتخذه الخارج أداة له للإخلال بالأمن السوري، أو من لا يملك حيثية داخلية تمكنه من النطق باسم فئة من الشعب توافق على تمثيله لها، لذلك ستكون الدولة السورية و حلفاؤها مضطرين لمتابعة العمل في الميدان بالشكل القائم مع تطوير وفقاً لمقتضى الحال من دون التوقف عند تهويل أو تهديد.

أما على صعيد الملف النووي الإيراني، فإن ما تحقق في المفاوضات الأخيرة ساهم في إدخال المنطقة في مرحلة جديدة ليس فيها جدل أو صراع حول هذا الملف ما يعني أن إيران باتت تتحضر للعمل بحرية أكبر في تداول شؤون المنطقة وملفاتها الراهنة.

فالمفاوضات كما يبدو أفضت إلى تفاهم شبه نهائي على الحل وأن تأجيل التوقيع ليس بسبب الخلاف على أمور جوهرية أساسية بل بسبب حاجة الفريق الغربي إلى وقت من أجل أمرين: الأول، ترتيب أوضاعه في منطقة الشرق الأوسط والتعامل مع إيران في وضعها الجديد المعترف به لها أنها دولة إقليمية كبرى أو الدولة الإقليمية الكبرى التي تنفتح على المنظومة الدولية للتفاعل معها في علاقات ندية متوازنة. أما الثاني، فيتمثل بحاجة الغرب خصوصاً أميركا إلى وقت يمكّن أتباعها من هضم نتائج الاتفاق وتداعياته على المنطقة بشكل عام. ولهذا كان التأجيل للتوقيع لمدة سبعة أشهر تعتقد أميركا أنها كافية لها لإنجاز المطلوب.

هذه العناصر الثلاثة الميدان والموقف الروسي ومآل الملف النووي الإيراني ، والتي تعتبر في مفاعيلها إيجابية بشكل مؤكد لصلح محور المقاومة هي التي رسمت أو أثرت في رسم المشهد الحالي المتشكل في المنطقة والذي يرجح موقع محور المقاومة على مواقع مكونات جبهة العدوان، وبهذا الترجيح نرى أن الخصم قد يلجأ إلى تعويض التراجع بتكثيف مواقف التهويل والابتزاز من قبيل طرح المناطق الآمنة كما تطرح تركيا، أو الضغط للعودة إلى جنيف1 كأن شيئاً لم يكن أو لم يحدث خلال 30 شهراً مضت على رغم التبدل الجذري للمشهد الميداني والسياسي.

لكننا نرى في مواجهة ما يطرح أو يمكن أن يطرح أن سياسة التهويل والابتزاز التي لم تجد نفعاً في مواجهة محور المقاومة سابقاً لن تؤثر في مواقفه اليوم بخاصة أنه في الموقع الاستراتيجي والميداني الأقوى بكثير مما كان عليه قبل 30 شهراً يوم كان حديث عن هذا وذاك من الطروحات.

وبكل بساطة نقول إن الطرح التركي بالمنطقة الآمنة طرح يستحيل تحققه بسبب عدم قدرة أصحابه على توفير مستلزماته من القرار في مجلس الأمن إلى المستلزمات الميدانية العسكرية، وهنا نرى أن الإعلان الروسي الدعم العسكري المطلق لسورية هو بمثابة رسالة علنية تقول للاعبين بالنار حذار حريق الأصابع، ولهذا نرى أن الموقف الأميركي الرافض حالياً للمنطقة الآمنة والحظر الجوي هو موقف واقعي لا يؤثر في واقعيته إقرانه بكلمة «حالياً» لأننا نعرف كيف تمتنع أميركا في مواقفها السياسية عن طمأنة الخصم وإقلاق الصديق.

أما التفاوض والحل السلمي فباتت له طريق واحدة، هو الإقرار بالواقع السياسي والميداني القائم في سورية، ومشاركة السوريين بعضهم بعضاً في حوار تديره الدولة وقد يكون برعاية دولية دونما تدخل أو فرض إملاءات من أحد، على أن يلحق أو يتزامن مع مواجهة الإرهاب لتجفيف مصادره أولاً واجتثاثه ثانياً وهي مسؤولية دولية كما أكد قرارا مجلس الأمن عليها.

كل ذلك يقودنا إلى القول إننا بدأنا نشهد ما يمكن وصفه ببداية انحسار الإعصار العدواني على المنطقة التي ستنصرف إلى ترتيب أوضاعها وفقاً لنتائج يستطيع المدافع أن يقول فيها إنه منع العدوان من تحقيق أهدافه.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى